الفلوس


لقد أدخل العدو إلى الروح البشرية حب الأخذ لا العطاء فصار الشعار هات.. هات.. هات. وأصبح الإنسان مشغولاً بالأخذ طمعًا وجشعًا، وتعوّد أن ينتظر ويجمع ويحفظ ويخزن، وصارت الفلسفة العامة للإنسان الطبيعي: "خذ قدر ما تستطيع واحفظه في علب وامنع الأيادي أن تصل إليه، والباقي اتلفه كي لا ينتفع به أحد".

وفي العصر الحالي أيضًا نرى المؤمنين قد قلّ عطاؤهم بل أقول قلّ حماسهم في تبعية الرب، وحتى عما رتبه الرب في العهد القديم حيث كان يجب أن يدفعوا العشور والتقدمات والباكورات والنذور والنوافل وزوايا الحقل التي تُترك للفقير والغريب، وهذا لا يقل تقريبًا عن 20% من دخل اليهودي، وكان الشخص المُقصّر في دفع العشور والتقدمة يدعوه الله لصًا وسارقًا لله ذاته؛ لهذا مَنْ يدفع العشور فقط في عهد النعمة قد يكون مستريح الضمير، وهو لا يدري أن تقييم السماء لعطائه هو أنه عطاء بالشح.

العطاء من الناحية الإيجابية
هو انشغال القلب الكلي بشخص المسيح وحبه له، ومن الناحية السلبية هو تحرُّر القلب من سلطان المال، يجب أن ننظر للعطاء النظرة الصحيحة، وهي أن الله هو المقصود بالعطاء: "منك الجميع ومن يدك أعطيناك" (1أي 29: 14)، وبالرجوع إلى عطاء الشعب لصنع خيمة الاجتماع تكرر مرارًا كثيرة القول عن عطاياهم: "تقدمة للرب" (خر35: 5 و21 و22 و29).

بالعطاء نحن نساهم في عمل الله، فبالرغم أننا لا نستطيع أن نشتري بالمال عملاً روحيًا ناجحًا، لكن يجب أن نعرف أن كل عمل ناجح يحتاج لتعضيد مادي لكي يستمر دون معوقات، ولأن العدو يعلم أنه لو قام المؤمنون بدفع الحد الأدنى مما يجب دفعه، سيتغير الحال من جهة حجم المساهمة في البرامج والمجالات الروحية التي لها أثرها في ربح النفوس البعيدة وبنيان المؤمنين، فهو لذلك يقوم بضرب الجذور ويبدأ الحرب مبكرًا عندما يضع في قلوب المؤمنين أن يكنزوا بدلاً من أن يساهموا في اتساع عمل الله.

إذا ابتعدنا عن الله في أمر التبرع لعمله لا نقدر أن نعوض عن ذلك بالنواحي الأخرى مثل الصلاة والمواظبة على الفرص الروحية، وتصبح هذه هي النقطة التي من عندها يجب أن نرجع للرب رجوعًا حقيقيًا.

ربما لا نسمع كثيرًا في اجتماعاتنا عن العطاء، وقد يكون السبب في ذلك هو الحرص على مشاعر الناس، أو حتى لا يُساء الظن في الدوافع من وراء مثل هذه التحريضات، ولهذا السبب قلما نجد النور الكافي بخصوص العطاء رغم أن كلمة الله تكلمت بالكثير، لهذا رأينا أن نقدم في هذا الموضوع العملي بحثًا مختصرًا من خلال كلمة الله، ركزنا فيه أكثر على الجوانب العملية التي نصلي أن تكون ذات نفع لكل الأحباء، وذلك إذا وُضعت موضع التنفيذ لا موضع الفهم والمعرفة فقط، وسوف تكون دراستنا لهذا الموضوع في ثلاثة محاور:

Z فكر الله من جهة المال

Z العطاء في العهد القديم

Z العطاء في عهد النعمة


الفصل الأول

فكر الله من جهة المال

كلمة الله تُكلمنا عن كل ما هو نافع ومفيد للحياة، لذلك لم تغفل أن تذكر لنا الخطوط الأساسية للمال باعتباره يمثل ركنًا هامًا في الحياة ووسيلة التعامل بين الناس. والمال رغم كونه عطية من عطايا الله الصالحة إلا أنه قد تكون محبته سر البلاء والشقاء؛ لذلك رأينا أن نتجول معًا في كلمة الله لنرى ما هو فكره من جهة هذا المال الذي بين أيدينا، وسوف ألخص هذه الأفكار في العناصر التالية:

أولاً: ما هو المال؟

1 - المال هو هبة من الله

مهما تكن لنا المهارات والقدرات لاكتسابه يجب ألا نغفل أن الله هو الذي أعطانا هذه القدرة لاكتسابه، مثلما قال للشعب قديمًا في تث8: 17و18: "لئلا تقول في قلبك قوتي وقدرة يدي اصطنعت لي هذه الثروة. بل اذكر الرب إلهك أنه هو الذي يعطيك قوة لاصطناع الثروة". فكل الوزنات الطبيعية التي نستخدمها في العمل مصدرها الله؛ لذلك جدير بنا ونحن نتمتع بعطايا الله أن نهتف مع بولس: "الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع" (1تي6: 17).

2 - نحن وكلاء عليه ولسنا مُلاكًا له

من كلمة الله نتعلم أن "للرب الأرض وملؤها. المسكونة وكل الساكنين فيها" (مز24: 1 و2) وفي مَثل وكيل مال الظلم (لو16: 1-15) وضح الرب لنا أن هذا المال الذي نملكه هو للغير، وقال: "إذا كنتم غير أمناء فيما هو للغير فمن يعطيكم ما هو لكم". والغير هنا هو الرب فالمال هو مال الرب ونحن لسنا إلا وكلاء عليه. فما أجمل داود عندما كان يعطي وهو يقول: "من يدك أعطيناك" (1أي 29: 14). وبناء على هذا يجب أن نعتبر ونحن ننفق من مال الرب أن العشور ليست فقط هي مال الرب بل الكل، مرة سُئل واحد: "كم تعطي من مالك للرب؟" أجاب قائلاً: "بل كم آخذ من مال الرب لإنفاقه في احتياجاتي". فلهذا يجب علينا إن كنا نخصص جزءًا من المال لإنفاقه في عمل الرب أن نكون حريصين في التصرف في الباقي، فسيأتي يوم فيه نعطي حساب وكالتنا (لو16: 2)، ليس فقط عن الجزء المخصص للرب بل عن الكل.

فالعطاء إذًا يُعبّر عن روح الشكر التي تملأ قلوبنا، ويُعبّر عن إحساسنا بالوكالة.. أي أننا نحن وما نملكه هو مِلك للرب وهذا هو التكريس الحقيقي، لهذا نحن -بتعبير أدق- لا نعطي الرب بل ندفع مما علينا له فنحن مديونون له بكل ما نملك.

ثانيًا: واجبنا تجاه المال

1 - اكتفاء لا اكتناز

يجب أن يكون واضحًا في طريقة حصولنا على المال أننا نريد تحقيق اكتفائنا منه أو ما يسدد حاجاتنا، فلا نتهافت في الحصول عليه بغرض الاكتناز أو لتحقيق ثروة "إن كان لنا قوت وكسوة فلنكتفِ بهما" (1تي 6: 8). فهناك فرق بين أن نكون أغنياء وتكون هذه خطة الله من جهتنا، وبين أن نريد نحن أن نكون أغنياء، فبولس كتب بالروح لتيموثاوس قائلاً: "أوصِ الأغنياء"، ومرة أخرى ذكر "أما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء" (1تي 6: 9 و17)، نذكر هذا لأن الكثيرين انشغلوا بجمع المال كما هو مكتوب "لأنه يؤتي الإنسان الصالح قدامه حكمة ومعرفة وفرحًا، أما الخاطئ فيعطيه شغل الجمع والتكويم ليعطي للصالح قدام الله." (جا 2: 26)،إن هؤلاء يُهدرون طاقاتهم ووقتهم لأجل هذا الأمر ناسين القصد السامي والغرض من وجودهم على الأرض، وهو أن يُكرسوا وقتهم وطاقاتهم لا لجمع المال بل لأجل مَنْ ضحى لأجلهم؛ وليس في الكتاب المقدس ما يبرر جمع المال وتكويمه حبًا في التكويم دون أن تكون هناك حاجة حقيقية؛ لذلك يجب ملاحظة أن جمع الثروة لا يُشبع النفس، بل يزيدها طمعًا. فالطمع نار مشتعلة، وتكديس الثروة إنما هو تغذية للنار لتزداد اشتعالاً.

قد يظن البعض أنه بمجرد الحصول على الكثير من المال عندئذ سوف يصبحون مكتفين، غير أن كلمة الله واختبارات الذين سبقونا، والواقع الذي نعيشه يؤكدون عكس ذلك، وعلينا أن ندرك أنه:

إن لم نتعلم الاكتفاء ونحن نملك القليل فلا يمكن أن نتعلمه عندما نملك الكثير، فبولس وهو في السجن قال: "تعلمت أن أكون مكتفيًا بما أنا فيه" (في4: 11).وآخاب الملك الشرير رغم كل غناه، بنى قصرًا من العاج إلا أنه كان مكتئبًا مغمومًا لأنه كان يريد قطعة أرض أخرى ليزرعها بستان بقول (1مل21: 2 و4).

2 - المال نذخر به أساسًا حسنًا للمستقبل

يوصي الكتاب الأغنياء أن يصنعوا صلاحًا، وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة، وأن يكونوا أسخياء في العطاء كرماء في التوزيع، مدخرين لأنفسهم أساسًا حسنًا للمستقبل، لكي يمسكوا بالحياة الأبدية (1تي6: 18و19)،

فالمال -الذي لا يمكن أن نحتفظ به على الدوام- عندما يُستثمر لمجد الله، وذلك بإنفاقه في مجالات الخدمة المختلفة، نحوّله إلى أمور أبدية وباقية لا يمكن أن نفقدها.وهذا ما أكده الرب في قوله: "اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية" (لو 16: 9)، والسؤال هو: كيف نصنع أصدقاء بمال الظلم؟ ذلك عندما نستخدم ما بين أيدينا في خدمة الآخرين لفائدة أرواحهم وأجسادهم، فإذا فنينا، أي انتهت حياتنا على الأرض الفانية، فإن النفوس التي خدمناها ستكون في انتظارنا مرحبة بنا في المظال الأبدية، أي في السماء.

تخيل أحدهم أخًا أنفق أمواله في طبع الكتب المقدسة والنبذ التبشيرية، ووصلت هذه الكتب والنبذ لأشخاص كثيرين واستفاد منها البعض ووصلوا للسماء. عندما نقف أمام كرسي المسيح سيعرف هؤلاء الأشخاص قصة وصول النبذة إليهم، وسيعرفون أنه بفضل التقدمة التي قدمها هذا الأخ طُبعت الكتب أو النبذ التي استخدمها الرب قي خلاصهم. عندئذ سيُقدمون شكرهم إليه قائلين له إنه بفضل تقدمتك قد وصلنا إلى السماء.

3 - المال وتدبير طريقة إنفاقه

مع إيماننا العظيم بأن الله يهتم بالغد، فالذي يهتم بالعصافير يهتم بنا نحن الذين أفضل من عصافير كثيرة، لكن هذا لا ينفي أن المؤمن يجب أن ينظم حياته وأوجه إنفاقه سواء في ما يخصه أو ما يخص الرب، "سعيد هو الرجل الذي يترأف ويُقرض، يُدبِّر أموره بالحق" (مز 112: 5).

ثالثًا: أمور لا يمنحها المال

1 - ليست حياتنا من أموالنا

قال الرب يسوع بفمه المبارك لشخص عرض عليه مشكلة كان سببها الطمع أو الميراث: "انظروا وتحفظوا من الطمع، متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله" (لو12: 15)، أي أن المال رغم أنه وسيلة جيدة للتعامل إلا أن هناك أمرًا لا يُشترى بالمال وهو الحياة، فقد يمتلك الشخص المال اللازم ليشتري سريرًا لكن هذا لن يمنحه النوم، وقد يشتري بالمال دواءً لكن هذا لن يمنحه الشفاء، وقد يشتري به طعامًا لكن هذا لن يمنحه الشهية، المال يجمع الناس حولك لكنه لا يعطيك صديقًا حميمًا، المال يعطي شكل الأشياء لكن ليس جوهرها. وأعتقد أن الرب من وراء هذا القول كان يقصد أكثر من هذا، فأراد أن يُعلِّمنا أن حياتنا لا تستمد وجودها من المال بل تستمد وجودها من الرب (أع 17: 28).

2 - المال لا يمنح السعادة

يظن كثيرون خطأ أن المال هو طريق السعادة، هذا لأنهم لا يمتلكونه، لكن متى امتلكوه لا يجدون فيه السعادة!! وهذا ما تؤكده كلمة الله "لقمة يابسة ومعها سلامة خيرٌ من بيت ملآن ذبائح مع خصام" (أم 17: 1). فالسعادة سببها الرئيسي هو العلاقة الصحيحة مع الله. فقد نوجد في ظروف ما أمرَّها لكننا نختبر فرح الرب فيها، ولنتذكر بولس فى مشهد المحاكمة وهو مقيد يقول: "إنى أحسب نفسي سعيدًا" (أع 26: 2). فالمال لا يعطي السعادة، وإذا أعطاها فهي دائمًا سعادة مزيفة تخفي وراءها كمّاً من التوتر والقلق والخوف وعدم الراحة.

3 - المال غير يقيني

"أوص الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى بل على الله الحي" (1تي6: 17). نرى بأعيننا أن كل شيء على الأرض هو متغير وغير يقيني، والمال من ضمن هذه الأشياء. فهو يأتي ويذهب، وقد يكون لدى شخص ما الكثير من المال لكنه من الممكن أيضًا أن يفقد كل ما عنده لسبب أو لآخر.

وهناك مقولة عن الذهب والفضة باعتبارهما من أقدم العملات المادية: إن الذهب سمي ذهب لأنه سريعًا ما يذهب، والفضة سُميت كذلك لأنها سريعًا ما تُفض.

4 - المال لا يمنحنا السلام

"كثيرون يقولون مَنْ يرينا خيرًا؟ ارفع علينا نور وجهك يارب جعلت سرورًا في قلبي أعظم من سرورهم إذ كثرت حنطتهم وخمرهم. بسلامة أضطجع بل أيضًا أنام، لأنك أنت يا رب منفردًا (أنت وحدك) في طمأنينة تسكنني" (مز 4: 6-8).

رابعًا: تحذيرات بخصوص محبة المال

1 - خطورة اشتهائه

"لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة" (1تي 6: 10)، لذا بسبب محبة المال سقط الكثيرون في جرائم وخطايا بلا عدد، حقًا إنها أساس كل الشرور والبلاء والشقاء. ومن الأمثلة الواضحة لخطورة اشتهاء المال وأضراره ما فعله "عخان بن كرمي" الذي يذكر عنه الكتاب أنه اشتهى الذهب والفضة والرداء وأخذها رغم أن الرب نهى عن ذلك، وقد جلب على نفسه وعلى بيته قضاء الرب فرُجم هو وكل ماله (يش7: 1 و20-26).

2 - المال قد يصبح سيدًا لا عبدًا

من كلمة الله الصادقة نفهم أن كل أمور العالم بما فيها المال، هى وسيله لا غاية، نستعملها ليتحقق قصد الله في حياتنا "الذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه لأن هيئة هذا العالم تزول" (1كو 7: 31)، ولنحذر جيدًا لأن المال من الممكن أن يتحول إلى سيد؛ وهذا ما يؤكده قول الرب: "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين… لا تقدروا أن تخدموا الله والمال" (مت6: 24)، فعندما يكون المال هو المطمح الأول في حياتنا، فإننا بذلك نجعله إلهًا لنا، وهذه عبادة أوثان. فالخطورة هنا ليست فقط في أنه وُضع في موضع المنافسة مع الله بل كلمة "تخدموا" التي جاءت عن المال تعني "تعبدوا"، من هنا نفهم أن بداية العيشة بمفهوم الوكالة هي الافتراق عن سلطان المال، فلا يكون المال أو ما يمثله من سلطان وجاه ومركز إلهًا يستعبدنا، فإما أن نعبد الله وتكون له السيادة التامة على حياتنا، ويكون عندئذ المال تحت طوعنا نستخدمه لمجد إلهنا، أو أن يستعبدنا المال فيكون سلطانه قاسيًا علينا.

3 - جمع الكثير منه قد يجعل البعض متكبرين

هذا الأمر جاء في كلمة الرب لا كمبدأ عام بل جاء بلغة التحذير، فقد يكون هناك أشخاص أغنياء يسلكون في اتضاع أمام الرب معترفين بفضله ونعمته وعطائه، لكن هناك البعض الآخر -وهذا ما يحذرنا منه الوحي- يتكبرون، وقد قال عنهم الرب في مَثل الزارع أن غرور الغنى يخنق الكلمة في حياتهم، فواضح هنا أن الغنى قد يقود صاحبه للغرور والإحساس بالقوة، وهذا يرجع لنسيان هذا الشخص المتكبر والمغرور أن يد الله هي التي أعطت. "احترز من أن تنسى الرب إلهك ولا تحفظ وصاياه وأحكامه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم لئلا إذا أكلت وشبعت وبنيت بيوتًا جيدة وسكنت وكثرت بقرك وغنمك وكثرت لك الفضة والذهب وكثر كل مالك، يرتفع قلبك وتنسى الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية" (تث 8: 11 و14).

4 - لا يجب أن نتكل عليه

قال الرب مرة: "ما أعسر دخول المتكلين على الأموال إلى ملكوت الله" (مر10: 24)، وقال أيوب: "إن كنت قد جعلت الذهب عمدتي أو قلت للإبريز أنت مُتكلى... أكون قد جحدت الله من فوق" (أي31: 24 و28)، فالمشكلة تكمن في اعتبار المال اعتماد الحياة وركيزة المستقبل؛ لذلك يجب أن نفرق هنا بوضوح بين الادخار والاتكال:

فالادخار هو وضع الفائض جانبًا لصرفه مستقبلاً كما يقودنا الرب، واثقين أن سندنا الوحيد هو الرب نفسه وليس المال. أما الاتكال على المال هو الاطمئنان والأمان لوجوده، وهذا ما يحذرنا الحكيم منه: "مَنْ يتكل على غناه يسقط" (أم 11: 28).

الفصل الثاني

العطاء في العهد القديم

1 - العشور

دفع العشور هو ممارسة منتظمة كانت تتم بأن يُخصص اليهودي للرب أول عُشر من مجمل دخله. أول ما نقرأ عن العشور في سفر التكوين -قبل أن تكتب كلمات الناموس- أن إبراهيم قدّم عُشرًا من كل شيء لملكي صادق ملك ساليم تعبيرًا عن شكره لله الذي أعطاه الانتصار هو والملوك الذين كانوا معه (تك14: 20)، كذلك يعقوب تعهد في تكوين 28: 20-22 بدفع العشور. وفي الناموس كانت العشور فريضة أمر بها الرب: "تعشيرًا تُعشّر كل محصول زرعك الذي يخرج من الحقل سنة بسنة" (تث14: 22). كذلك الملك حزقيا جمع العُشر لرعاية الكهنة وخدمة الهيكل: "وأتوا بعُشر الجميع بكثرة" (2أي31: 5).

 هناك ثلاثة أنواع من العشور، العشر الأول للّاويين هو ما جاء الكلام عنه في لاويين 27: 30-33 "وكل عشر الأرض من حبوب الأرض، وأثمار الشجر فهو للرب، قدس للرب. وإن فك إنسان بعض عشره يزيد خمسه عليه. وأما كل عشر البقر والغنم فكل ما يعبر تحت العصا يكون العاشر قدسًا للرب لا يفحص أجيد هو أم رديء ولا يبدله، وإن أبدله يكون هو بديله قدسًا لا يفك" للمزيد ارجع إلى عدد 18: 12- 24؛ نحميا 10: 37 و38، وهذا العشر عندما يأخذه اللاوين يقدمون عشره للكهنة (عدد 18: 26- 28).

العشر الثاني: "تعشيرًا تُعشّر كل محصول زرعك الذي يخرج من الحقل سنة بسنة، وتأكل أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره ليحل اسمه فيه عُشر حنطتك وخمرك وزيتك وأبكار بقرك وغنمك لكي تتعلم أن تتقي الرب إلهك كل الأيام. ولكن إذا طال عليك الطريق حتى لا تقدر أن تحمله، إذا كان بعيدًا عليك المكان الذي يختاره الرب إلهك ليجعل اسمه فيه إذ يباركك الرب إلهك، وأنفق الفضة في كل ما تشتهي نفسك في البقر والغنم والمسكر وكل ما تطلب منك نفسك وكل هناك أمام الرب إلهك وافرح أنت وبيتك، واللاوي الذي في أبوابك لا تتركه لأنه ليس له قسم ولا نصيب معك" (تث 14: 22-27) للمزيد ارجع إلى: تثنية 12: 6- 12 و17 و18.

لاحظ الاختلافات بين هذا العشر والعشر الأول:

• العشر الأول قدس للرب لا يمس، أما العشر الثاني كان يمكن لليهودي أن ينفقه في كل ما تشتهيه نفسه.

• العشر الأول يستطيع أن يشتريه شريطة أن يزيد الخمس على ثمنه، أما العشر الثاني كان يمكن لليهودي أن يبيعه بفضة ثم يصر الفضة ويحضرها إلى مكان خيمة الاجتماع أو بيت الرب، إذا كان ذلك المكان بعيدًا عليه، ولكن دون زيادة الخمس المعتادة.

• العشر الثاني كان يدفع بعد العشر الأول أي يحسب من التسعة الأعشار الباقية بعد دفع العشر الأول.

العشر الثالث يوضع في الأبواب: كان يُدفع مرة كل ثلاث سنوات "في آخر ثلاث سنين تخرج كل عُشر محصولك في تلك السنة وتضعه في أبوابك فيأتي اللاوي لأنه ليس له قسم ولا نصيب معك والغريب واليتيم والأرملة الذين في أبوابك ويأكلون ويشبعون لكي يباركك الرب إلهك في كل عمل يدك الذي تعمل" (تث 14: 28 و29)، (للمزيد ارجع إلى عاموس 4: 4).

لماذا العشور في العهد القديم؟

للتدريب على مخافة الرب: "تعشيرًا تُعشر كل محصول زرعك الذي يخرج من الحقل سنة بسنة... عشر حنطتك وخمرك وزيتك وأبكار بقرك وغنمك لكي تتعلم أن تتقي الرب إلهك كل الأيام" (تث14: 22و23). وكانت العشور بهذه الصورة نوعًا من التدرب على مخافة الرب، وإشعارًا لبني إسرائيل بأن الله هو مالك الأرض، ومعطي كل ثمارها وخيراتها أما هم فلم يكونوا سوى زارعيها ومستأجريها، عند تقديم الإنسان عشوره فهو يعترف بهذا بشكل أساسي بأن الله مصدر كل شيء.

لتدعيم بيت الرب: "ليكون في بيتي طعام" (ملا 3: 10) أي طعام للكهنة وللاويين وخدام بيت الرب، ومَنْ يلجأ في طلب الحاجة إلى بيت الله.

لضمان بركة الرب: من الناحية الإيجابية يفتح كوى السموات "هاتوا جميع العشور إلى الخزنة... وجربوني بهذا قال رب الجنود إن كنت لا أفتح لكم كوى السموات وأفيض عليكم بركة حتى لا توسع" (ملا3: 10) (بركة من كثرتها لا يجدون مكانًا يسعها، قد تكون وفرة في الخيرات المادية، فلا يكون هناك احتياج، وقد تكون بركة في الصحة وقد تكون بركة نجاح في العمل...). وهذا يعني ببساطة أننا كمؤمنين سنعطي الآخرين من الفائض الذي لدينا، فتكون حياتنا سلسلة من العطاء نُعطي فنُعطى ثم نُعطي أيضًا وهكذا، فتصبح نظرتنا أننا سنأخذ لسبب العطاء لكي تكون عندنا الإمكانية لنعطي أكثر، وهذا يختلف عن الناس في هذا العالم الذين لسان حالهم: "ليس لدينا ما يكفينا" وهذا لأنهم لم يختبروا الفيض لا من قريب ولا من بعيد وأيضًا لأنهم لم يتعلموا الاكتفاء أيضًا.ومن الناحية السلبية ينتهر الآكل "وأنتهر من أجلكم الآكل فلا يفسد لكم ثمر الأرض" (ملا 3: 11)، والآكل هو كل ما يعتدي علينا، قد يكون وباء يتلف المزروعات، وقد يكون ضيقًا أو ضغطًا نتعرض له، أو قد يكون مرضًا يصيب الجسد. لقد قال الرب: "لا تُجرّب الرب إلهك" (تث 6: 16؛ مت 4: 7)، لكن وصية العطاء هي الوحيدة التي قال الرب فيها "جربوني"، وذلك لأن الله يعلم عدم أمانتنا وتأثير سلطان المال علينا. وكون الله يقول جربوني فليس المقصود من هذا أن نضع الله تحت التجربة والاختبار، فالقصد ليس هو إثبات أمانة الله، بل لنبرهن على ثقتنا نحن في صدق مواعيده القوية والمباركة والصادقة والأمينة، وهنا نرى كيف أن الله أقرن وصيته لنا بالعطاء بوعد وهذا لتشجيعنا على العطاء.

• كانت العشور تسمى "قدسًا للرب" (2أخ 31: 6)، وكلمة قدس للرب أي الشيء الذي لا يمسه الإنسان لأنه ملك للرب، والكلمة هنا تُذكّرنا بقدس الأقداس الذي لم يكن مسموحًا لأي شخص أن يدخله سوى رئيس الكهنة ومرة واحدة في العام في يوم الكفارة العظيم، وهذا ما تُعبر عنه أيضًا صلاة اليهودي بعد دفع العشور "متى فرغت من تعشير كل عشور محصولك في السنة الثالثة، سنة العشور، وأعطيت اللاوي والغريب واليتيم والأرملة فأكلوا في أبوابك وشبعوا، تقول أمام الرب إلهك قد نزعت المقدس من البيت وأيضًا أعطيته للاوي والغريب واليتيم والأرملة حسب كل وصيتك التي أوصيتني بها. لم أتجاوز وصاياك ولا نسيتها. لم آكل منه في حزني ولا أخذت منه في نجاسة ولا أعطيت منه لأجل ميت بل سمعت لصوت الرب إلهي وعملت حسب كل ما أوصيتني. اطلع من مسكن قدسك من السماء وبارك شعبك إسرائيل، والأرض التي أعطيتنا كما حلفت لآبائنا، أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً" (تث 26: 12- 15).

• لقد وبخ الرب يسوع الكتبة والفريسيين المرائين لا لأنهم يقدمون عشر محاصيلهم من أبسط المزروعات... النعنع والشبث والكمون بل لأنهم بينما يحرصون على ذلك، لا يصنعون الرحمة، فكان تحريض الرب: "كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك" (مت 23: 23).

• لقد كان التقصير في العطاء في العهد القديم سلب لله: "أيسلب الإنسان الله. فإنكم سلبتموني. فقلنا بما سلبناك؟ في العشور والتقدمة..." (ملا 3: 8) أي أنتم سراق، هذا في حالة التقصير في العطاء، وقد يظن المُقصّر في العطاء أن عملية السلب تتم سرًا، فالسارق يجد سلامًا عندما يتيقن أن فعلته الخاطئة لم يعلم بها أحد، لكن هيهات من هذا الفكر المغلوط ونحن نعلم أننا نتعامل مع إله يعرف فكرنا من بعيد، فنحن مكشوفون أمامه. وقصة حنانيا وسفيرة التي وردت في العهد الجديد تُلقي الكثير من الضوء على هذا الأمر، فقد ظنا أن أحدًا لن يعرف فعلتهما، لكن أراد الرب أن يضع عبرة أمام أعين المؤمنين في الكنيسة الأولى وأمام المؤمنين على مر العصور، فأماتهما تحت التأديب. فدعونا نستفِيق، أنسلب الله صاحب النِعم والعطاء والإحسان؟ لأننا منه نستمد كل شيء في الماضي والحاضر والمستقبل.

2 - التقدمات

هي عطاء بسخاء بعد دفع العشور، فالعشور التي كانت تُدفع كانت تُقدّر بـ 10% من الدخل فلم يكن فيها سخاء، لكن السخاء كان يظهر في التقدمات، فهي بلا حدود وتتطلب سماحة في القلب"كلم بني إسرائيل أن يأخذوا لي تقدمة. من كل مَنْ يحثه قلبه تأخذون تقدمتي" (خر25: 2)، وكانت تُقدم في وقت معين وبحسب قيادة الرب وكانت تُدفع في اتجاه معين، ولو تتبعنا ما قاله موسى للشعب: "خذوا من عندكم تقدمة للرب كل مَنْ قلبه سموح، فليأت بتقدمة الرب ذهبًا وفضة ونحاسًا... فخرج كل جماعة بني إسرائيل من قدام موسى، ثم جاء كل مَنْ أنهضه قلبه، وكل مَنْ سمحته روحه. جاءوا بتقدمة الرب لعمل خيمة الاجتماع" (خر 35: 4 و5 و20 و21).

3 - الباكورة

جاءت الوصية الخاصة بالباكورات: "أكرم الرب من مالك ومن كل باكورات غلتك فتمتليء خزائنك شبعًا وتفيض معاصرك مسطارًا" (أم3: 9 و10). وهذه الوصية تحتوي على وعد بالبركة لمن ينفذها، والباكورة هي أول كل شيء فلو زرع أحدهم زرعًا تكون هي أول قطفة.

4 - النذور

عهود خاصة اختيارية يقدمها الإنسان ويلتزم بالوفاء بها "هذه مواسم الرب التي فيها تنادون محافل مقدسة لتقريب وقود للرب محرقة وتقدمة وذبيحة وسكيبًا أمر اليوم بيومه، عدا سبوت الرب وعدا عطاياكم وجميع نذوركم وجميع نوافلكم التي تعطونها للرب" (لا 23: 37 و38). راجع أيضًا سفر العدد30: 1-16.

5 - النوافل

النوافل هي جمع نافلة وهي عطايا اختيارية تطوعية أكثر من المفروض "وتقدمون إلى هناك محرقاتكم وذبائحكم وعشوركم ورفائع أيديكم ونذوركم ونوافلكم وأبكار بقركم وغنمكم" (تث12: 6).

6 - زوايا الحقل ولقاط الحصيد

لقاط الحصيد هو ما يقع أثناء الحصاد، ويجب أن يُترك للغريب والفقير والأرملة "وعندما تحصدون أرضكم لا تُكمل زوايا حقلك في حصادك ولقاط حصيدك لا تلتقط. للمسكين والغريب تتركه" (لا 23: 22).

7 - عدم مراجعة الأغصان أثناء الحصاد

"إذا حصدت حصيدك في حقلك ونسيت حزمة في الحقل فلا ترجع لتأخذها للغريب واليتيم والأرملة تكون، لكي يباركك الرب إلهك في كل عمل يدك. وإذا خبطت زيتونتك فلا تراجع الأغصان وراءك، للغريب واليتيم والأرملة يكون. إذا قطفت كرمك فلا تعلله (أي لا تلتقط فضلات الحصاد) وراءك للغريب واليتيم والأرملة يكون" (تث24: 19-21).

8 - ترك ما ينبت تلقائيًا في السنة السابعة

ما ينبت في السنة السابعة التي هي راحة الأرض يُترك لعبدك ولأمتك ولأجيرك ولمستوطنك النازلين عندك "أما السنة السابعة ففيها يكون للرب سبت عطلة سبتًا للرب. لا تزرع حقلك ولا تقضب كرمك. زريع حصيد (ما ينبت تلقائيًا) لا تحصد وعنب كرمك المحول لا تقطف. سنة عطلة تكون للأرض. ويكون سبت الأرض لكم طعامًا لك ولعبدك ولأمتك ولأجيرك ولمستوطنك النازلين عندك" (لا 25: 4-6).

9 - الذبائح المتنوعة والنصف شاقل

الذبائح المتنوعة: المحرقة، تقدمة الدقيق، السلامة، الإثم، الخطية (لا 1-5) التي كانت تُقدم، ونصف شاقل الذي كان يُدفع للهيكل. ولو حسبنا قيمة كل هذه الأنواع من العطايا ستصل لنسبة تتراوح من 20 إلى 30% من دخل اليهودي، فكم في هذا توبيخ لنا نحن الذين نلنا فيض النعمة !

 


الفصل الثالث

العطاء في العهد الجديد

من الأمور السامية والرائعة أن الفكر الأساسي في المسيحية هو العطاء والتضحية، حيث أن أساس الإيمان المسيحي هو أن المسيح أعطى نفسه: "أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها" (أف 5: 25)، وكذلك الله بذل ابنه (يو 3: 16).

المحبة تقود إلى التفكير في الآخرين وليس التفكير في حب النفس، وإحدى صور التفكير في الآخرين هو العطاء. والله دائمًا يضع في قلوبنا الإحساس بالآخرين، فما علينا سوى التجاوب مع قلب الله ومشاعره.

• في كلمة الله لنا تحريضات كثيرة على العطاء، ومن أهم التحريضات العبارة التي نطق بها الرب يسوع ولم تُدون في الأناجيل ولكنها دونت في أعمال 20: 35 "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ". والآية معناها أن فرح الذي يُعطي أكثر من فرح الذي يأخذ. وأيضًا في عبرانيين 13: 15 و16 ذكر الوحي "فلنقدم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه. ولكن لا تنسوا فعل الخير والتوزيع لأنه بذبائح مثل هذه يُسر الله"، ولسبب أن هذه الوصية من أكثر الوصايا التي تُنسى جاءت كلمة "لا تنسوا" مرتان في عبرانيين 13، والمرتان بخصوص العطاء؛ فلهذا يجب أن نُذكّر أنفسنا ونُذكّر بعضنا البعض بهذا الأمر.

كلمة "أعطوا" المذكورة في لوقا 6: 38 صيغة الفعل تفيد الاستمرار كأن الرب يسوع لا يقول أعطوا مرة وكفى، بل أعطوا وواصلوا العطاء.. أي اجعلوا العطاء نمط حياتكم الدائم.

بالعطاء نحن نعبِّر عن المحبة التي في قلوبنا فلا تكون محبة بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحق. بهذا نُعبّر أمام الرب عن عمق إحساسنا بالآخرين.

• فالمؤمن الذي يعطي، لا يعطي على سبيل الأمر ولا لأنها وصية، ولكنه يعطي لأنه وجد الفرصة التي كان ينتظرها لكي يُفرح قلب الرب، وإذ يُسر قلب الله بعطايا المؤمن، يرى المؤمن رضا الله عما يفعل وهذا ما يُسره.

• مَنْ يعطي كأنه يفتح حسابًا في السماء بفوائد عالية جدًا "لست أطلب العطية بل الثمر المتكاثر لحسابكم" (في 4: 17).

في سياق دراستنا للعطاء في العهد الجديد سنناقش الأفكار التالية:

                                 أولاً: وعد الرب بإكرام الذي يعطي

• "أعطوا تعطوا كيلاً جيدًا ملبدًا مهزوزًا فائضًا تعطون في أحضانكم" (لوقا 6: 38). ولكي يُشدد الرب على هذا الوعد استخدم خمسة أوصاف بمعنى الكثرة، قال أولاً: "كيلاً جيدًا" ويعني غير صغير أو غير ناقص. وقال ثانيًا: "مُلّبدًا" أي مضغوطًا وهذا ما يفعله الذي يكيل لكي يتسع الكيل للمزيد. وثالثًا: "مهزوزًا" فالذي يكيل يهز الكيل ويُلبده ليتسع لكمية أكبر. ورابعًا "فائضًا" أي مستمر وبكثرة. خامسًا "في أحضانكم" وهذه الكلمة المجازية التي استخدمها الرب لها دلالة قوية حيث كان الناس في أوقاتها يرتدون ثيابًا طويلة فضفاضة، كان الرجل إذا أراد شراء كمية من القمح أو غيره من الحبوب يطلب من البائع أن يكيل له الكمية المطلوبة ثم يرفع أطراف رداءه إلى فوق فيكوّن به وعاءً كبيرًا يتسع لكثير من القمح، ويُمسك أطراف رداءه المرفوعة بينما يُفرّغ البائع القمح في ذلك الرداء المرفوع والذي يسميه الرب "أحضان" ومفردها حضن، بهذا المجاز قصد الرب أن يوضح أن "الذي يُعطي سيأخذ كثيرًا". وهي أيضًا تشير إلى التحصل عليه بأقل مجهود وبأقل تعب "لأن بركة الرب هي تُغني ولا يزيد معها تعبًا" (أم 10: 22).

• "ومَنْ يزرع بالشُح فبالشُح أيضًا يحصد ومَنْ يزرع بالبركات (بزيادة، بكثرة، بوفرة) فبالبركات أيضًا يحصد" (2كو9: 7)، نفهم من هذا أن مبدأ الزرع والحصاد ينطبق على العطاء كما ينطبق على كل أمور الحياة، وكما أن بين الزرع والحصاد وقت كذلك في العطاء، فقد نرمي خبزنا على وجه المياه لكننا حتمًا سوف نجده ولو بعد أيام كثيرة (جا11: 1)، والاستثمار الأصلي للبذور يُحدد كمية المحصول المحصود. فكما أن كمية الحصاد تفوق كمية الزرع بمراحل، هكذا في إكرام الرب لعطايانا المادية، فقد قال الرب بفمه الكريم: "وكل مَنْ ترك بيوتًا أو إخوة أو أخوات أو أبًا أو أمًا أو امرأة أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية" (مت 19: 29)، وفي إنجيل مرقس10: 30 قال: "إلا ويأخذ مئة ضعف الآن في هذا الزمان بيوتًا وإخوة وأخوات وأمهات وأولادًا وحقولاً مع اضطهادات، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية" ، إذًا أنت الذي تُقرر كم ستأخذ بالأسلوب الذي تُعطي به إذا كان بالشُح أو البركات.

 ومع هذا يجب ألا يكون الدافع وراء العطاء هو أننا نعطي لكي نأخذ، لكن نعطي لأننا أخذنا.

• "كنت فتى وقد شخت ولم أرَ صديقًا تُخُلّي عنه ولا ذرية له تلتمس خبزًا" (مز 37: 25)، هذا الصدّيق ذُكر عنه في نفس المزمور "أما الصدّيق فيتراءف ويعطي" (ع 21)، فمكافأة الرب له ليست فقط في حياته عندما لا يتخلى عنه، بل تمتد لتشمل ذريته أيضًا.

• "فيملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع" (في 4: 19)، هذا الوعد كان لإخوة فيلبي الذين كانوا قدوة في العطاء، فهم ككنيسة لم يتأثروا بتقصير الآخرين في العطاء، فعندما كان بولس في تسالونيكي وقد عقد العزم على ألا يثقل على أحد أرسلوا له مرة ومرتين (في 4: 16). وعندما كان في كورنثوس أرسلوا له أيضًا (2كو 11: 8 و9).

• "كأس ماء بارد لا يضيع أجره" هذه الآية تأخذ بأنظارنا إلى كرسي المسيح، وهناك ستُكافأ حتى أبسط العطايا. فالعطاء إذًا له بركات في هذا الزمان، وله مكافآت أمام كرسي المسيح أيضًا.

ثانيًا: طريقة العطاء

طريقة العطاء مذكورة في 1كورنثوس 16: 1 "في أول كل أسبوع يكون هناك جمع ليضع كل منكم عنده خازنًا ما تيّسر له".

ثالثًا: أساس العطاء

أساس العطاء هو المحبة، وإعطاء أنفسنا أولاً للرب فلا نعطي المال للرب إن لم نكن قد أعطيناه أنفسنا أولاً، لهذا يجب أن يكون أولاً عطاء النفس للرب (2كو8: 5)، ثم عطاء المال الذي يأتي بتلقائية، فلا يمكن أن نشتري علاقة حية مع الله بالمال. الله يستطيع أن يُدبّر أموره حسنًا دون عطايانا، لكنه أوصانا بالعطاء لبركتنا.

رابعًا: مقدار العطاء.. هل هو العشور؟

لقد كان مؤمنو العهد القديم يدفعون العشور، وعند حسابها مع الأخذ في الاعتبار التقدمات في الأعياد وزوايا الحقل التي كانت تُترك للغريب والفقير والنوافل، اتضح أنها كانت أكثر من 20%، فكم وكم يجب أن نعطي نحن مؤمنو العهد الجديد! والوحي يحرضنا على العطاء فيقول: "المعطي فبسخاء" (رو 12: 8)، بمعنى وأنتم قريبون من قلب الله المحب ونعمته العظيمة، يجب أن يكون طابع عطائكم هكذا، لهذا لو دفعنا العُشر فأقل من اليهود في العهد القديم، ولكننا يجب أن ندفع أكثر حسب طاقتنا؛ هذا هو الفكر الإلهي من جهة العطاء. ولنلاحظ أن الله لا يقيس عطايانا بمقدار ما نعطي، بل بمقدار ما نحتفظ به لأنفسنا، والقصة الواردة في مرقس12: 41-44 توضح كيف امتدح الرب الأرملة ذات الفلسين وعطاءها دون الأغنياء الذين ألقوا الكثير، فالكثير الذي ألقاه الأغنياء كان بالنسبة لهم هو الفُتات الساقط من موائدهم، أما الفلسان اللذان ألقتهما هذه الأرملة فكانا بالنسبة لها كل معيشتها، لهذا استحقت مدح السيد.

من ناحية أخرى نذكر ما قاله أحد الإخوة بالغرب: "الله لا يريد منك بقشيشًا! فلا ترمِ قطعة نقود زائدة في صندوق التقدمات، فأنت تهين الله بذلك. والواقع أن إلقاء ما يساوي دولارًا في التقدمة هو إهانة للرب، فأنت اليوم تضع ما يساوي دولارًا في يد مَنْ يرتب لك مائدة الطعام في المطعم، فلا تعامل الله بالطريقة نفسها إذ أنك تهينه بذلك."

ونذكر هنا رأيين عن مقدار العطاء:

1 - دفع العشور بطريقة حرفية: وهم يستندون في ذلك على أن المؤمن في عهد النعمة لا ينبغي أن يكون أقل اهتمامًا بدفع العشور من أولئك الذين عاشوا في عهد الناموس، فالرب قال إن بركم يجب أن يزيد على الكتبة والفريسيين (مت5: 20)، ومن يدافعون عن هذا الفكر يؤكدون أن ترك المجال للحرية يجعل الحماس يقل والغيرة تفتُر ويجعل الناس تتعذر بكثير من الأعذار، ويعتقد أصحاب هذا الفكر أن الحياة المسيحية تتطلب النظام والتدقيق وعدم الاعتماد على النواحي العاطفية، لأن الإنسان خاطيء وقلبه خادع، وكثيرًا ما يحاول تبرير ضعفه وتقصيره ليرضى عن نفسه.

2 - يجب أن يصطبغ العطاء بالدافع الروحي: فأصحاب هذا الفكر يخشون من الشكليات في حفظ الوصايا؛ لأن هذا ربما يقودنا كما قاد الفريسي -في المثَل الذي قاله الرب– إلى الاعتداد بالذات (لو18: 11و12).

ومن جهة أخرى يجب أن يكون العطاء هو تجاوب من القلب لبركات الله وعطيته التي لا يُعبر عنها، والعطاء هو تعبير عن شكرنا لله، والشعور بإحسانات الرب فيعطي صاحب هذا القلب بسرور وسخاء "ماذا أرد للرب من أجل كل حسناته لي؟ كأس الخلاص أتناول وباسم الرب أدعو. أوفي نذوري للرب مقابل كل شعبه" (مز116: 12-14).

أيًا كان الرأي الذي تقبله من هذين الرأيين، لكن عليك أن تدرك أن الفكر الأول يعتمد على الإنسان في ذاته ولذلك هو يخشى من ظهور السلبيات، أما الثاني فيعتمد على نعمة الله في الإنسان والتي ستؤدي إلى كثير من التجاوب الإيجابي المليء بالعطاء. وبدون شك أن الفكر الثاني هو الأصوب.

كوننا نعطي المال فنحن نقدم الوقت والقوة والموهبة والإمكانيات، فالمال بالنسبة لنا يمثل كل هذه وبالتالي فمقدار عطائنا يُعبّر عن مدى التكريس للرب، فعندما نعطي الله قسمًا محددًا من دخلنا فنحن نعطي أنفسنا له، ولا يجب أن تكون عطايانا بالمال فقط بل إن الممتلكات التي نحصل عليها يجب أن نعطي منها ما يحق الرب، كما أن الصحة التي نتمتع بها يجب أن نكرم الرب بواسطتها، فنسير على أقدامنا ونساعد بأيدينا ونقرأ بعيوننا، كل هذا مساعدة للآخرين. ففي العهد القديم كانت وصية الرب "هاتوا جميع العشور" (ملا 3: 10)، فكان يلتزم اليهودي بدفع العُشر من كل شيء يحصل عليه، فهل نفعل نحن طوعًا ما كانوا هم يفعلونه إجبارًا؟

ونختم الكلام عن مقدار ما نعطي بهذا الأمر المشجع وهو أن الله يحتفظ بسجلات يُدون فيها تقدمات المؤمنين ولا ينسى شيئًا، هذا ما نفهمه من كلمة الله عندما سجل في الوحي تقدمة كل رئيس من الرؤساء في (عدد7: 10-17) "وقرب الرؤساء لتدشين المذبح يوم مسحه. وقدم الرؤساء قرابينهم أمام المذبح. فقال الرب لموسى: رئيسًا رئيسًا في كل يوم يقربون قرابينهم لتدشين المذبح والذي قرب قربانه في اليوم الأول نحشون بن عميناداب من سبط يهوذا. وقربانه طبق واحد من فضة وزنه مئة وثلاثون شاقلاً ومنضحة واحدة من فضة سبعون شاقلاً على شاقل القدس، كلتاهما مملوءتان دقيقًا ملتوتًا بزيت لتقدمةٍ، وصحن واحد عشرة شواقل من ذهب مملؤة بخورًا، وثور واحد ابن بقر، وكبش واحد وخروف واحد حوليّ لمحرقةٍ وتيس واحد من المعز لذبيحة خطية. ولذبيحة السلامة ثوران وخمسة كباش وخمسة تيوس وخمسة خراف حولية. هذا قربان نحشون بن عميناداب".

خامسًا: مكان العطاء

"إلى الخزنة في بيتي" (ملاخي 3)، الخزنة التطبيق العملي لها هم مَنْ يقومون بالخدمة المالية وسط كنيسة الله، أي الذين يقومون بوظيفة الشمامسة.

سادسًا: كيفية العطاء

يجب أن يكون العطاء:

بمحبة: يجب أن يكون الدافع من وراء العطاء هو محبتنا للرب، فقد يهب المؤمن كل أمواله ولكن يُنحي قلبه بعيدًا عن الرب، حينئذ يصير عطاؤه مثل الفريسي الذي ظن أن عطاءه من الممكن أن يبرره.

بأمانة: "وأتوا بالتقدمة والعشر... بأمانة" (2أخ 31: 12).

في الخفاء: (مت 6: 3 و4)* فلا يجب أن نُشعِر الآخرين بمقدار عطائنا، فالكتاب يُعلّمنا ألا نتشبّه بالذي كان يعطي ويُصوت قدامه بالبوق لكي يُشعِر الآخرين بعطائه، فإذا لم يره أحد كف حينئذ عن العطاء. وفي تعبير تصويري آخر يقول الرب: "لا تُعرِّف شمالك ما تفعل يمينك"، فكما يحذرنا الكتاب من السعي لنوال مديح الناس، يحذرنا أيضًا من الإعجاب بالذات فيقول: "وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تُعرِّف شمالك ما تفعل يمينك لكي تكون صدقتك في الخفاء" فاليد اليمنى هي العضو الذي به نعمل الأعمال، أما الناحية اليسرى فهي مكان القلب. فالرب إذ يقول: "لا تُعرف شمالك ما تفعل يمينك" كأنه يقول: لا تدع قلبك يُعجب بما تفعل. فهناك أشخاص مع أنهم لا يعملون برّهم أمام الناس ليمدحهم الغير، إلا أنك تجدهم بينهم وبين أنفسهم مُعجبين بما فعلوا.

مجانًا: "مجانًا أخذتم مجانًا أعطوا" أي "أعطوا وأنتم لا ترجون شيئًا" (مت10: 8).

بطاعة: مثل طاعة الغلام الذي أعطى الأرغفة الخمسة والسمكتين للرب بإرادته (مت 14: 15- 21).

حسب المقدرة: "حسبما تيّسر لكل منهم يرسل" (أع 11: 29)، "ولكن الآن تمموا العمل أيضًا حتى إنه كما أن النشاط للإرادة كذلك يكون التتميم أيضًا حسب ما لكم" (2كو8: 11).

بسخاء: "المعطي فبسخاء" (رو 12: 8)، والسخاء يعني أنه ينبغي أن يتخطى العطاء حدود الواجب أو الوصايا، وهذا ما نراه واضحًا في عطاء زكا والمرأة ذات الفلسين (انظر ص 59-60 في هذا الكتيب).

بانتظام: "ليضع كل واحد... خازنًا" (1كو 16: 1 و2).

بسرور: "بسرور... ليس عن حزن أو اضطرار" (2كو9: 7) وكلمة بسرور تعني أن نعطي بحماس.

بنشاط: "وكما أن النشاط موجود كذلك الإرادة" (2كو8: 11 و12).

بتضحية: "فاض وفور فرحهم لغنى سخائهم وفقرهم العميق" (2كو 8: 2).

بتلقائية: وفي هذا يختلف العطاء المسيحي عن العطاء اليهودي ففي الترتيب الناموسي كان لا يهم إذا كان الشخص يريد أن يعطي أم لا بل كان يجب عليه أن يعطي عشوره، هذا هو الناموس. لكن العطاء المسيحي نابع من القلب، فالمؤمن يجب أن يعطي ولا ينتظر منه أن يعطي تحت ضغوطٍ من أحد أو حتى كلمات تحريض، ومثال لذلك أخوة مكدونية"لأنهم أعطوا حسب الطاقة أنا أشهد وفوق الطاقة من تلقاء أنفسهم. ملتمسين منا بطلبة كثيرة أن نقبل النعمة وشركة الخدمة التي للقديسين" (2كو8: 3 و4).

بتمييز: يجب أن نتأكد من أن الشخص الذي أمامنا محتاج فعلاً، وهذا الأمر يحتاج لحكمة وتمييز لأننا عرضة لأن نُخدع في الجو الكنسي -جو الثقة- من أشخاص ربما هم غير مؤمنين أو ربما هم مؤمنون، ولكنهم ضعفاء يسترقون القلوب بكلمات وهمية وبظروف وهمية لكي يستدروا عطف الآخرين ليحصلوا على عطائهم.

بقيادة من الرب: فلا يجب أن نعطي خجلاً من انتقاد الناس، أو اتقاء للعقوبة، أو حفظًا للسمعة أو مجاملة، أو مجاراة للمجتمع، ولا بدافع العاطفة لموقف مفاجيء نراه ونتأثر به، بل يجب أن تكون لنا صلوات ليقودنا الرب لأوجه صرف العطاء.

وأخيرًا: يُفضل أن نضع ما أراح الرب عليه قلوبنا جانبًا وحده وذلك حتى يسهل العطاء ولا يكون ثقلاً علينا عند العطاء.

سابعًا: لمن نعطي؟

1 - لإمداد خدام الرب في الخدمة: "لأن الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون" (1كو 9: 14؛ 1تي 5: 18). وفي غلاطية 6: 6 "ولكن ليُشارك الذي يتعلم المعلم في جميع الخيرات". وفي رو 16: 1 و2، ويوصي الرسول بولس بالاعتناء بفيـبي خادمة الكنيسة: "أوصي إليكم بأختنا فيـبي التي هي خادمة الكنيسة التي في كنخريا، كي تقبلوها في الرب كما يحق للقديسين وتقوموا لها في أي شيء احتاجته منكم". وبالنسبة للعطاء لخدام الرب فهذا العطاء لتغطية احتياجات الخدمة واحتياجات الخادم الشخصية. فبولس وهو يكتب لإخوة فيلبي في نهاية الرسالة (في4: 10-19) ذكر أن العطاء الذي يُقدم للخدام يدخل في حساب العطاء والأخذ، وهذا الحساب يخص الخدام والمخدومين في ذات الوقت، فعطاء الخدام يتمثل في زرع الروحيات والأخذ يتمثل في حصد الجسديات (1كو 9: 11)، والحصاد هنا ليس هو مقابلاً ماديًا لخدمات روحية وإلا لتحولت خدمة الرب إلى وسيلة للربح القبيح، بل هو تسديد احتياجات الخادم وخدمته عن طريق الرعية.

وهذا الحساب بالنسبة للمخدومين هو عطاؤهم المادي الذي يشتمه الرب كذبيحة مرضية ومقبولة، وأخذهم يتمثل في عطاء الرب لهم الذي يشمل كل جوانب الحياة الروحية والزمنية. هناك خطورة من إهمال هذا المجال من مجالات العطاء مثلما حدث في (نح 13: 10- 13) حيث ترك اللاويون خدمة بيت الرب بسبب قلة التقدمة وابتدأوا يشتغلون.

2 - للشيوخ المدبرين حسنًا: "وأما الشيوخ المدبرين حسنًا فليحسبوا أهلاً لكرامة مضاعفة ولا سيما الذين يتعبون في الكلمة والتعليم... الفاعل مستحق أجرته" (1تي5: 17و18)، واضح هنا أن الكرامة المضاعفة هي لاعتبار سنهم ولاعتبار خدمتهم، وأيضًا كما نفهم بعد ذلك و"الفاعل مستحق أجرته"، إن الكرامة لهم قد تعني العطاء المادي.

3 - لأجل المشروعات: التي تحتاج لمبالغ كبيرة سواء بناء أماكن للعبادة أو تجديدات وترميمات بها، ومثال لذلك ما عمله يوآش "كان في قلب يوآش أن يجدد بيت الرب... وقال لهم... اجمعوا فضة لأجل ترميم بيت إلهكم ففرح كل الرؤساء وكل الشعب، وأدخلوا وألقوا في الصندوق حتى امتلأ... هكذا كانوا يفعلون يومًا فيومًا حتى جمعوا فضة بكثرة. ودفعها الملك ويهوياداع لعاملي شغل خدمة بيت الرب، وكانوا يستأجرون نحاتين ونجارين لتجديد بيت الرب وللعاملين في الحديد والنحاس أيضًا لترميم بيت الرب" (2أي 24: 4-12). العطاء يجب أن يكون بسرور وليس نتيجة ضغط وإلا فالمشروع الذي سنتبرع له لن يتم تنفيذه، ولكنها فرصة ثمينة لو أُتيحت لنا، فإننا نُسر بأن الرب شرفنا بالاشتراك في هذا العمل ونشكره لإتاحة هذه الفرصة؛ لذلك يجب أن نُغير أسلوبنا ونحن نطالب الناس بالتبرع.

4 - لتعضيد نشر الإنجيل: (غل 6: 6-12؛ 2كو8: 1و2؛ 2كو9؛ في4: 15-19) فنحن نشترك في توزيع الكتاب المقدس إما بحمله إلى الآخرين أو توزيعه في المناطق المحرومة أو تدعيم التوزيع مجانًا.

5 - لأجل إمداد عمل الله في مجالاته المختلفة: العمل الكرازي، الإرساليات، الخدمة في المناطق المحرومة، توزيع الكتاب المقدس، الكتب والمطبوعات الروحية، احتياجات الكنيسة المحلية... إلخ. إن القصد من العطاء هو اشتراك الإنسان في عمل الله، ورغم أن الله غير محتاج لعطائنا، فالله ليس فقيرًا وعلى وشك الإفلاس، حاشا. لكننا نحن المحتاجون إليه، فإذا لم ننهض ونعطه فإننا نخسر بركة عظيمة.

أخيرًا من الأقوال المأثورة لجورج مولر الذي عاش في القرن الثامن عشر وأسس أعظم خدمة للأيتام في العالم: "المال ليس له قيمة في نظري، ما لم أستخدمه في عمل الله ولأجل الله، وكلما دفعت في عمل الله، كلما كنت أستمد أكثر بركات من الله".

6 - لتسديد احتياجات فقراء القديسين: في العهد القديم كانت وصايا الرب بخصوص العطاء للفقراء أن نراعي مشاعر الفقير، فكان لا يطلب الفقير احتياجاته من أحد بل كانت هذه الوصايا تضمن له أن يأخذ احتياجاته دون طلب، حيث كان الرب يوصي له بسقيط الحصاد ليأخذه من الأرض لا من إنسان، وكذلك زوايا الحقل. أما في العهد الجديد فالكتاب المقدس يوصي "مَنْ كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجًا وأغلق أحشاءه فكيف تثبت فيه محبة الله" (1يو 3: 17) والفقراء جاء عنهم كثيرًا أنهم إخوة وقديسون ويجب أن يستخدمنا الرب في تسديد احتياجاتهم دون أن يطلبوا.

بالعطاء للفقراء نحن نكرم الرب وهذا ما نفهمه من القول الذي سيقوله الرب في يوم ما لقوم: "بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (مت25: 34-39)، وبتعميم هذا المبدأ نجد أن كل عطاء للفقراء يعتبره الرب عطاء شخصيًا له.

بالعطاء نحن نشارك المتألمين آلامهم ونشعر بتعب المتعبين ونحمل أثقالهم "فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه وإن كان عضو واحد يُكرم فجميع الأعضاء تفرح معه" (1كو12: 26). "إن كان فيك فقير أحد من إخوتك في أحد أبوابك في أرضك التي يعطيك الرب إلهك، فلا تُقسِّ قلبك ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير... أعطه ولا يسؤ قلبك عندما تعطيه لأنه بسبب هذا الأمر يباركك الرب إلهك في كل أعمالك وجميع ما تمتد إليه يدك" (تث15: 7-11).

في تثنية 15: 11 ذكر الوحي "لأنه لا تُفقَد الفقراء من الأرض لذلك أنا أوصيك قائلاً افتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك"، نتعلم من هذا أن الفقراء موجودون في كل مكان وكل زمان في أغنى البلاد وفي أفقرها، لكن يجب أن نعرف أن الله يسمح بوجود الفقراء في كل زمان وكل مكان لا لاحتياجهم لنا بل لاحتياجنا نحن لهم، فالله قادر أن يُسدد احتياجهم لكن بدون وجودهم كيف نتعلم العطاء وممارسة المحبة عمليًا. ولقد وعد الرب بإكرام مَنْ ينظر إلى المسكين: "طوبى للذي ينظر إلى المسكين في يوم الشر ينجيه الرب. الرب يحفظه ويحييه، يغتبط في الأرض ولا يُسلمه إلى مرام أعدائه. الرب يُعضده وهو على فراش الضعف مهدت مضجعه كله في مرضه" (مز41: 1-3).

"مَنْ يعطي الفقير لا يحتاج ولمن يحجب عنه عينيه لعنات كثيرة" (أم28: 27)

"فرَّق أعطى المساكين، بره (جوده) قائم الى الأبد" (مز112: 9)

أي أن جود الله وعطائه للمساكين سيستمر بلا انقطاع، ونحن عندما نعطي فنحن نُعبِّر عن مشاعر الرب تجاههم واهتمامه ورعايته بهم، ومن جهة أخرى فإن ما نعطيه لهم هو من جود وعطايا الرب نفسه. "مَنْ يرحم الفقير يُقرض الرب وعن معروفه يجازيه" (أم 19: 17)

لأن الفقير لا يستطيع أن يرد، فكأننا في هذه الحالة نعطي الرب الذي يستطيع أن يرد وليس فقط نعطيه بل نُقرضه، وكأن الله يقول إني سأضع نفسي تحت التزام أمامكم –إن جاز هذا التعبير- وكأني مديون لكم وأنتم الدائنين مع أننا في الحقيقة نحن مديونون له بكل شيء.

ما أروعه إله يُشجع، وكلماته هذه من أكبر المشجعات على العطاء للفقراء !

ومن سفر الأمثال نتعلم أن إكرام المسكين هو إكرام للرب، فيقول إن راحم المسكين يمجده (أم 14: 31). وعلى قدر ما يكافئ الرب مَنْ يستمع للمسكين وينجيه، فهو يتوعد مَنْ يسد أذنيه عن صراخه بالقول: "مَنْ يسد أذنيه عن صراخ المسكين هو أيضًا يصرخ ولا يُستجاب له" (أم 21: 13).

كان الرسول بولس يُركّز على هذه الخدمة.. خدمة الجمع لأجل فقراء القديسين، بجوار خدماته التجوالية، فأوصى الكنائس بذلك، وباشر بنفسه وصول هذه الخدمة لهم (غل 2: 10؛ 1كو 16: 1).

وفي رسالة يعقوب -التي تُكلمنا عن التبرير بالأعمال كثمر للإيمان- كان التحريض "الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم" (يع 1: 27)، وفي رسالة رومية كانت الوصية "مشتركين في احتياجات القديسين" (رو12: 13).

7 - إضافة الغرباء: إضافة الغرباء يتحدث عنها كاتب الرسالة إلى العبرانيين ويُذكّرهم بها: "لا تنسوا إضافة الغرباء لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون" (عب 13: 2)، وهو يقصد هنا إبراهيم (تك 18: 1- 15)، وقد استضاف الرب يسوع وهو لا يعلم. وقد يقول قائل إنه لا يستطيع ضيافة الغرباء لأن بيته صغير لا يتسع لذلك أو لأنه غير مرتب، لكن حتى لو لم يكن لديك سوى منضدة ومقعدين في حجرة صغيرة فهناك مَنْ سيشكرك ويصبح ممتنًا لك لو أنه قضى بعض الوقت معك. فهل هناك زائرون لكنيستك يودون مشاركتك الطعام؟ وهل تعرف إنسانًا يريد مشاركتك في أمسية مع كوب من الشاي وشيء من الحديث؟ وهل هناك أي طريقة يمكن بها لبيتك أن يسد احتياجات الزوار من الكارزين؟ إن الضيافة معناها، ببساطة، أن تجعل الآخرين يشعرون بالراحة في بيتك، وأن يشعروا بالألفة مع المكان مهما كانت بساطة ما تقدمه لهم.

8 - لغير المؤمنين: في العطاء يجب أن يتسع قلبنا حتى للمحتاجين من غير المؤمنين، وإن كان أولوية العطاء هي لأهل الإيمان حسب وصية الكتاب "فإذًا حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ولا سيما لأهل الإيمان" (غل6: 10)، لكن بالنسبة لعطائنا لغير المؤمنين يجب أن نتأكد أنه تسديد لاحتياج حقيقي عندهم، لئلا تكون مساعدتنا لهم هي مساعدة للاستمرار في حياة البُعد عن الرب.

ولو أثيرت هذه الأسئلة:

س: ماذا عن شراء الكتب الروحية هل يليق خصم ثمنها من الجزء المُخصص للرب؟

س: ماذا لو قدمت جزءًا من العطاء لأقاربي المحتاجين؟

س: هل ما أقوم بصرفه في خدمة الرب يصلح أن يخصم من مال الرب؟

عن هذه الأسئلة لا أستطيع أن أعطي رأيًا قاطعًا فالأمر يترك لتدريب المؤمن أمام الرب، ولتلقيه إرشادًا في الصلاة بخصوص كل مبلغ يُصرف من العطاء، لكن كمبدأ عام كل ما يُصرف ويكون في دائرة مسئوليتي لا يُعتبر عطاء. وكل ما يُصرف ولا يساهم في الغرض الأساسي وهو اتساع دائرة سيادة الله على حياة الآخرين لا يُعتبر عطاء. وأخيرًا يجب أن نتحرر من روح الناموسية في عطائنا وفي تنفيذ وصايا الرب، بل بمحبة وبخضوع نطلب إرشاد الرب وقيادته.

ثامنًا: مَنْ الذي يعطي؟

المؤمن هو الذي يعطي، ولا يُنتظر ولا يُطلب من الخاطئ أي عطاء، بل يجب أن يرجع إلى الرب رجوعًا حقيقيًا ويعطي قلبه للرب أولاً. فيوحنا كتب بالروح عن بعض الخدام وقال: "لأنهم من أجل اسمه خرجوا وهم لا يأخذون شيئًا من الأمم" (3يو 7).

فالله لم يطلب من الشعب المستعبد في أرض مصر أي عطاء، لكن بعد أن تحرروا كانت هناك وصايا بخصوص هذا الأمر. والكتاب يخبرنا أيضًا أن "ذبيحة الشرير مكرهة" (أم 21: 7)، وهذا يسري على أنواع الذبائح بما فيها العطاء، فالعطاء باسم الرب لا يكون مرضيًا ومقبولاً وله قيمة إلا بعد تقديم النفس أولاً للرب، أي بعد الإيمان الحقيقي.

الخدام: يجب عليهم أن يعطوا، فخادم الرب الذي لا يعطي للرب بكل أمانة يسلب بيته وأيضًا كنيسة الله بركة الله المادية، فكيف يُعلِّم عن العطاء وهو نفسه سالب لله. ومن وصية الرب للاويين نفهم أنه يجب على خدام الرب أن يعطوا من دخلهم "واللاويون تُكلِّمهم قائلاً متى أخذتم العشر الذي أعطيتكم إياه من عندهم نصيبًا لكم ترفعون منه رفيعة الرب عُشرًا من العُشر" (عدد 18: 26). "ويُصعد اللاويون عُشر الأعشار إلى بيت إلهنا... إلى بيت الخزينة" (نح 10: 38).

الطالب: الذي لا يملك دخلاً ثابتًا يجب عليه أن يعطي، فيمكن التدرب على العطاء منذ الصغر، فالمصروف الذي يحصل عليه يمكن من خلاله التدرب على العطاء، ولنتذكَّر أن تقدمة الغلام في معجزة إشباع الجموع رغم صغرها، عندما وُضعت في يدي السيد كانت سبب بركة له وللجموع الغفيرة.

الفقير: يجب عليه أن يعطي، فالوحي أبرز لنا قصة الأرملة ذات الفلسين ليوضح أن للفقراء نصيبًا في هذه البركة، فليس المهم كم نعطي قدر أهمية كيف نعطي وماذا يمثل ما ندفعه لما نملكه، لهذا قال الرب عن عطاء الأرملة ذات الفلسين إنها أعطت أكثر من الأغنياء رغم أن ما ألقوه كان أكثر. والإخوة في مكدونية يقول الرسول عنهم أنه: "فاض وفور فرحهم وفقرهم العميق لغنى سخائهم، لأنهم أعطوا حسب الطاقة، أنا أشهد، وفوق الطاقة" (2كو 8: 2 و3)، فلو وجدت حتى حفنة دقيق فلابد من أن يكون للرب جزء فيها. فلهذا لا يجب على أي شخص مهما كانت ظروفه أن يعفي نفسه من العطاء بدعوى أنه عندما تتسع الظروف سوف يعطي، فالعكس هو الصحيح فعندما نعطي ونحن نملك القليل سنعطي أيضًا عندما يُقيمنا الله على الكثير، لكن إذا لم نعطِ ونحن فقراء فمهما تزداد ممتلكاتنا لن يكون هناك عطاء. ومن ناحية أخرى نقول: أعطِ حيث تظن أنك في حاجة لتأخذ لا لتعطي، فإذا شعرت بحاجة للمحبة حاول أن تحب الآخرين وسيعود عليك الكثير من المحبة... وهكذا.

أذكر هنا قصة قصيرة: قدمت إحدى الأخوات مبلغ من المال إلى أخت فقيرة، فشكرت هذه الأخت الرب من أجل اهتمامه بها، وفي نهاية اللقاء أصرت الأخت الفقيرة على أن تدفع عشور هذه العطية قبل أن تصرف منها جنيهًا واحدًا رغم حاجتها الشديدة للمال، وقالت: "ضعي هذه في صندوق الخدمة لئلا تمتد يدي إليها"، مُقدّرة معنى نصيب الرب من هذه التقدمة.

الأطفال: ويجب علينا كآباء أن ننمي في أولادنا روح العطاء من صِغرهم وهم في مدارس الأحد، وذلك بأن نقوم بمتابعتهم في هذا الأمر وتعضيدهم ليكون لهم الإمكانية للعطاء، فيكبروا وفي قلوبهم تقدير للرب صاحب العطاء فيعبرون عن ذلك بالعطاء بسخاء.

تاسعًا: متى نعطي؟

في كل وقت كلما وجدنا احتياجًا وكان عندنا الإمكانية لسداده، وقادنا روح الله لذلك فلنعطِ، وهناك عطاء أيضًا في أول كل أسبوع (1كو16)، حيث أنه أمام ذكرى موت الرب تمتلئ قلوب المؤمنين بدوافع التكريس للرب بكل ما نملك بما في ذلك المال.

عاشرًا: معطلات العطاء

1 - عدم الاكتفاء: لا يمكن لشخص غير شاكر أو غير راض أن يكون معطاء، "والله قادر أن يزيدكم كل نعمة لكي تكونوا ولكم كل اكتفاء كل حين في كل شيء تزدادون في كل عمل صالح" (2كو9: 8)، لهذا نجد الرسول بولس بالروح القدس بعد أن قال "لا تنسوا إضافة الغرباء" ذكر بعدها "لتكن سيرتكم خالية من محبة المال. كونوا مكتفين بما عندكم لأنه قال لا أهملك ولا أتركك" (عب13: 5). ربما شخص غير مكتف يقارن ما عنده بما عند غيره فيجده قليل، فيبذل كل جهده ليكتنز أكثر، ويضحي بكل شيء في سبيل هذا، يضحي بصحته وأسرته واحتياجاته، ويختزل أمورًا لا يجب أن تُختزل ومنها بالطبع العطاء للرب.

2 - الخوف من المستقبل: خوف البعض من الغد يمنع البعض من عطاء اليوم، فقد يخاف البعض من الاحتياج في المستقبل ويظنون أن هذه الأموال كافية لتمنح لهم الأمان بالغد، معلنين بهذا عدم ثقتهم في الرب.

3 - البُخل: البخيل هو الذي يريد أن يكتنز فحسب، ويجد صعوبة كبيرة في الإنفاق على أي شيء، وهذا يجعله يمسك أكثر من اللازم، مع أن قول الكتاب: "يوجد مَنْ يُفرِّق فيزداد ومَنْ يُمسك أكثر من اللائق وإنما إلى الفقر. النفس السخية هي تُسمَّن والمروي هو أيضًا يُروى" (أم 11: 24و25). إن قانون الإنسان أن مَنْ يُمسك أكثر من اللائق فإلى الغنى، ومَنْ يعطي ويُفرِّق من عنده على الآخرين سيحتاج يومًا ما؛ لكن كلمة الله تخبرنا العكس تمامًا فالعطاء يُفرِّح الرب ولسببه يفتح لنا كوى السماء، والبُخل يُغلق علينا بركات السماء. ومن ناحية أخرى لا يوجد سبب لأولاد الله أن يقلقوا. ألم يقل الرب في متى 6: 25-34 "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون أو تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون... انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها... فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس. فإن أبوكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها".

4 - الأنانية: الأناني شخص يقنع نفسه أنه أحق بما بين يديه من غيره فلا يفكر سوى في نفسه، ويغض الطرف عن احتياجات الآخرين رغم أنها تصرخ من حوله. هل هذه هي الروح المسيحية التي تعلمناها؟!

إن القاعدة العامة التي تعمل بموجبها الذات هي: "احصل على أكثر ما يمكن، ثم أعطِ أقل ما يمكن إعطاؤه، واحتفظ لنفسك بأكثر ما يمكن الاحتفاظ به". وإن شعار الذات هو: "إن شخصي أحب إلى نفسي من أي شخص آخر".

5 - عدم الثقة في مَنْ يحملون مسئولية الجمع: فقد نُصدم في بعض المرات بأن مَنْ ائتمناهم على عطائنا لا يستخدمونه بكل أمانة، وهذا قد يقودنا لعدم الثقة في الجميع بصفة عامة فنمتنع عن العطاء ونُحرم من بركته، لكن علينا أن نعتبر أن الأشخاص الذين يدبرون هذا الأمر هم الذين سيعطون حسابًا لله* وليس نحن، ورغم هذا يجب علينا لو اكتشفنا أن بعض الجهات غير أمينة في التصرف في العطاء أن نكُّف عن المشاركة معهم، لكن هناك في ذات الوقت عشرات الأماكن الأخرى التي يتم التصرف فيها في مال الرب بكل خوف.

6 - التأجيل: أحيانًا نكون على قناعة بأننا يجب أن ندفع حقوق الرب ونعترف بتقصيراتنا لكننا نؤجل الدفع، أو نقدم جزءًا فقط ونؤجل الباقي، فلا يجب علينا، لكون الله لا يضغط علينا كما يفعل الدائنون، أن نجعل الله ينتظر وندفع التزاماتنا الأخرى. لكن من كلمة الله نتعلم ألا نؤجل الدفع، فالرب قال للشعب القديم إن عطاءهم يجب أن يكون: "تعشيرًا تُعشّر كل محصول زرعك الذي يخرج من الحقل سنة بسنة" (تث14: 22)، "قد نزعت المُقدّس من البيت" (تث26: 13). لهذا يجب ألا نؤجل العطاء، فحتمًا ستعترضنا أزمات وسنجد أنفسنا عاجزين عن وفائها، فمَنْ يؤجل حق الرب لوقت آخر غالبًا لن يدفعه أبدًا.

7 - الإهمال: قد تكون لدى شخص نية العطاء لكن لأنه غير منظم بصفة عامة في أموره تجده لا يعرف كم يعطي، فهو لا يعرف مقدار دخله! فهذا الشخص قد يظن بهذا أنه يُغالط الله، لكن الله لا يُشمخ عليه.

8 - الظروف الصعبة: قد يكون هناك شخصًا يدفع بانتظام، لكن بمجرد حدوث ظروف معينة صعبة له يبدأ في عدم العطاء، قد يؤدي تقصير المؤمن في العطاء إلى تأديبات من الرب له زمنيًا في أمور الحياة، فبدلاً من أن يتوب ذلك المؤمن يُقصّر أكثر متعللاً بالظروف والضيقات التي يسمح له الرب بها.

9 - اكتناز حق الرب: البعض يبرر اكتنازه لمال الرب أنه لا توجد مجالات لإنفاقه أو التصرف فيه، لكن في هذه الحالة نقول نحن لسنا بنكًا لله، فإن لم تكن هناك مجالات أمامنا فهناك احتياجات كثيرة غيرنا متثقل بها، فقط علينا أن نصلي ليرشدنا الرب للشخص أو الجهة التي نسلمها عطايانا، وحتى لو بعد ذلك لم نجد جهة أو شخصًا مناسبًا يجب أن نقوم بإعطاء هذه المبالغ للكنيسة المحلية لتتولى هي أوجه الصرف أو حتى اكتنازه لحين ظهور مجالات للصرف، وهذا أوقع من اكتنازنا نحن مال الرب.

10 - المتاجرة بمال الرب: البعض يعتقد أنه ليس هناك خطأ في تشغيل مال الرب (في محله أو مشروعه) أو التصرف به في أمور تخصه، لكن يجب أن نضع في اعتبارنا أن كلمة الله تُعلِّمنا أن نفصل مال الرب عن أموالنا الخاصة (1كو16: 2)؛ لأنه ما أخدع القلب البشري الذي قد يجور على مال الرب، وهذا ليس من المناسب بل إنه يعتبر مخالفة لفكر الرب أن نتاجر بماله لحسابنا الشخصي.

11 - التأثر بالنماذج السلبية: فقد نوجد في أوساط نجد أن مَنْ حولنا فيها لا يهتمون بالعطاء فنتأثر بهم، أو قد نقارن مقدار ما ندفعه بما يدفعه غيرنا فنجد أن ما ندفعه كثير، لكن علينا أن نعرف أنه إن كان هناك نماذج سلبية فهناك في ذات الوقت نماذج إيجابية في كلمة الله، وفي الوسط الذي نعيش فيه فمن هؤلاء نتعلَّم ونتشجع في عطائنا، أما كوننا ندفع أكثر فكما سبق الكلام: إن قياس الله لعطائنا لا يكون على مقدار ما نعطيه بل على مقدار ما نحتفظ به لأنفسنا، فقد يكون القليل الذي يُعطيه الآخر يمثل له كل معيشته كالأرملة ذات الفلسين، وقد يكون نصف أو ربع دخله أما الذي يملك الكثير فيجب أن يكون مقدار عطائه أكثر فبالتالي لا مجال للمقارنة.

12 - العطاء بعد تغطية الاحتياجات: قد يظن البعض أن عليهم القيام بتسديد كل احتياجاتهم أولاً وإن تبقى بعض المال فحينئذ يستطيعوا أن يعطوا للرب، لكن بالرجوع حتى للعهد القديم عهد الظلال نجد أنه عندما كان الله يطلب العشور كان يُعطى العُشر للرب أولاً، والباكورات أيضًا كانت عبارة عن أول دخل وأفضل شيء يقدم للرب، فهل نعتقد نحن الذين تمتعنا بنعمة الله التي أجزلها لنا في صليب ربنا يسوع المسيح أنه يقبل منا الفُتات والفضلة الباقية عندنا؟!  إن كثيرين أرادوا تبعية الرب، لكن أمورهم الخاصة وقفت حائلاً أمام تبعية الرب؛ ولذا خسروا بركات هذه التبعية (لو9: 57-62).

13 - الاعتماد على عطاء الآخرين للرب: قد نُقصّر في العطاء زعمًا منا بأن هناك مَنْ في مقدورهم أن يجبروا تقصيرنا بعطائهم السخي للرب، لكن كما سبق ووضحنا أن الرب يريد أن يكون للجميع قلب سخي في العطاء، فالمسألة أكبر من تسديد احتياجات عمل الرب، بل ما يُشبع قلب الرب هو تقدير كل مؤمن له في عطاؤه مهما كان حجم هذا العطاء.

وفي نهاية حديثنا عن معطلات العطاء قد يثار هذا السؤال:

س: تقدم إليَّ شاب مؤمن طالبًا المساعدة له في ظرف ما يمر به وأنا متردد هل أعطيه؟ لأن هناك وصية تقول "كل مَنْ سألك فاعطه" (مت5: 42) أم أن هناك سندًا كتابيًا يبرر عدم عطائي له؟

في البداية نذكر أنه لسبب الحساسية المرهفة التي بين المؤمنين نجد أن صاحب الاحتياج نادرًا ما يُعبِّر عن احتياجه، والحالة التي ذكرتها ظهر فيها عكس ذلك، لكن وصية الكتاب في هذا الأمر "وأما مَنْ كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجًا وأغلق أحشاءه عنه فكيف تثبت محبة الله فيه" (1يو 3: 17)، فلا ننتظر حتى يُطلب منا بل ربما لا يُطلب فيجب أن تكون عيوننا مفتوحة على ظروف بعضنا البعض، فكلمة "نظر أخاه" نفهم منها أن المبادرة يجب أن تكون من الأخ المعطي لا من الأخ المحتاج. هذا الأمر يحتاج إلى تدريب في محضر الله لأنه لا يوجد قانون معين، ولكن خير لي أن أعطي على أي حال من أن أمتنع عن مساعدة شخص له احتياج.

أما عن الشاب الذي يطلب منك عطاء، إذا كان هذا الشاب له قدرة على العمل فهو ليس من الفئة التي تستحق العطاء، ، فكما يحثنا الكتاب على عمل الرحمة يحثنا أيضًا على التفرقة بين المحتاج والكسول، وقد أوضح الرسول بولس هذه الحقيقة في حديثه إلى كنيسة تسالونيكي: "إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يُتمثل بنا لأننا لم نسلك بلا ترتيب بينكم. ولا أكلنا خبزًا مجانًا من أحد بل كنا نشتغل بتعب وكد ليلاً ونهارًا لكي لا نُثقل على أحد منكم ليس أن لا سلطان لنا بل لكي نعطيكم أنفسنا قدوة حتى تتمثلوا بنا. فإننا أيضًا حين كنا عندكم أوصيناكم بهذا أنه إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا" (2تس3: 7-10).

حادي عشر: ما هو غرض العطاء؟

(1) للتعبير عن الشركة مع بقية أعضاء الجسد الواحد: (2كو 8: 4)، أي مشاركة وجدانية لكل أعضاء الجسد في كل الظروف، وإنه لشرف عظيم أن نشارك الرب عواطفه من نحو قديسيه. قال أحدهم لآخر: "لماذا تتحدث عن الله حسنًا وأنت معوز؟" أجاب وقال له: "يبدو أن الله أوصى أحدهم لأجلي لكن هذا الأخير قد نسي".

(2) للازدياد في كل أوجه النشاط المسيحي: (2كو 7:8)، فكما نزداد في العلم وفهم الحقائق والإيمان والاجتهاد والمحبة للقديسين، كذلك يجب أن نزداد في نعمة العطاء.

(3) للبرهنة على حقيقة محبتنا: (2كو8: 8 و24)، فكما أن محبة الله تبرهنت بالعطاء، كذلك يجب أن تظهر محبتنا لإخوتنا بهذه الكيفية، فالمحبة المسيحية أكثر من مجرد شعور أو عاطفة. إنها مبدأ يحرك اليد والبيت لأجل الإخوة. وإن لم أكن أنا بمواردي المحدودة عونًا للأخ المعوز، وسترًا لأخطائه، وحكمة لجهالته، ومبسوط اليد لحاجته، وباكي العينين لمحنته، ومسرور القلب لفرحه، إن لم أكن كل هذا لأخي فلأصمت عن الإعلان بأني "أحب الله" وأني واحد من الذين لا يستحي المسيح أن يدعوهم إخوة.

(4) للتشبُّه بربنا يسوع: (2كو8: 9) ذاك الذي كُتب عنه "من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره" ياله من مثال كامل للسخاء، وياله من نموذج رائع للبذل والعطاء.

(5) لكي تحدث "المساواة" بتسديد إعواز الآخرين: "فإنه ليس لكي يكون للآخرين راحة ولكم ضيق، بل بحسب المساواة. لكي تكون في هذا الوقت فُضالتكم لإعوازهم كي تصير فُضالتهم لإعوازكم حتى تحصل المساواة. كما هو مكتوب الذي جمع كثيرًا لم يُفضل والذي جمع قليلاً لم ينُقص" (2كو 8: 13- 15)، فالمساواة لا تحدث بمعجزة بل عندما يعطي مَنْ له ازدياد لمَنْ هو في احتياج. والاقتباس من سفر الخروج 16: 18 نتعلم منه أن المال والأملاك مثل المنْ لا تحتمل التخزين، فكما أن المنْ الذي كان يزيد عن الاحتياج ينتن، كذلك المال سيأتي يوم يتعرض كل ما تم تخزينه للسوس والصدأ.

(6) لنختبر عمليًا غنى الله وكفايته لنا: "والله قادر أن يزيدكم كل نعمة لكي تكونوا ولكم كل اكتفاء كل حين في كل شيء تزدادون في كل عمل صالح" (2كو9: 8).

(7) منح الفرصة للآخرين ليشكروا الله لسبب عطايانا: "لأن افتعال هذه الخدمة ليس يسد أعواز القديسين فقط بل يزيد بشكر كثير لله، إذ هم باختبار هذه الخدمة يُمجدون الله على طاعة اعترافكم لإنجيل المسيح وسخاء التوزيع لهم للجميع" (2كو 9: 12-15)، من هذا نتعلم أن العطايا لا تسد إعواز القديسين فقط بل ستزيد الشكر لله من الذين أزالت هذه العطايا ضيقتهم.

(8) هذا الثمر يزداد لحسابنا: "ليس أني أطلب العطية بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم" (في4: 17).

أخيرًا إن كنا تكلمنا عن العطاء المادي للرب، لكن لا ننسى أنه يجب أن يمتد ليشمل كل جوانب الحياة فيشمل الطاقة والصحة والوقت وكل الإمكانيات التي أعطاها لنا الرب بل تقديم الحياة كلها على مذبح التكريس لله.

ثاني عشر: مسميات العطاء

العطاء له مسميات في كلمة الله منها: بركة (2كو 9: 5)، نعمة (2كو 8: 19)، ذبيحة (عب 13: 6)، ثمر (في 4: 17)، زرع (عب 13: 6)، كنز (مت 6: 19- 21)، خدمة (2كو 9: 19)، وسنتناول بشيء من التفصيل معنى العطاء كثمر وكذبيحة.

العطاء كثمر: (رو 15: 26- 28؛ في 4: 10- 17) الثمر يكون لشبع الآخرين، والعطاء المادي هو نوع من الثمر في حياة المؤمن فعن طريقه تُسدد احتياجات إخوة معوزين، فيرجعون للرب بالشكر على تسديده لأعوازهم، لهذا فالعطاء يسبب شبعًا لقلب الرب أيضًا. لأجل هذا عندما كتب الرسول بولس لإخوة فيلبي عن الخدمة المادية قال: "لأني لست أطلب العطية بل الثمر المتكاثر لحسابكم" (في 4: 17)، وكانت بداية كلامه في هذا الجزء (في 4: 10) أنه ذكر تعبيرًا يوضح أن العطاء يشابه الثمر "قد أزهر مرة أخرى اعتناؤكم بي الذي كنتم تعتنونه".

العطاء كذبيحة: فالعطاء المسيحي شيء نابع من القلب لكي يُقدّره الله. فمالم تكن هناك رغبة وإرادة صادرة من قلوب مكرسة للرب، فإن العطاء يصبح وكأنه شيئًا ناموسيًا وتخلو منه قيمة الذبيحة الحقيقية.

 عن العطاء المادي ذكر الرسول بولس في فيلبي 4: 18  ذات التعبيرات التي تُذكر عن الذبائح الروحية "قد امتلأت إذ قبلت من أبفرودتس الأشياء التي من عندكم نسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة مرضية عند الله"، ومن كلام الملاك لكرنيليوس نفهم هذا أيضًا عندما قال له: "صلواتك وصدقاتك صعدت تذكارًا أمام الله" (أع10: 4) وفي رسالة العبرانيين 13: 15 كان التحريض "ولكن لا تنسوا فعل الخير والتوزيع لأنه بذبائح مثل هذه يُسر الله"، فالعطاء بالنسبة لله يُسره، وبالنسبة للآخرين به نظهر عمليًا أن محبة الله ثابتة فينا (1يو3: 16و17)، وبالنسبة لكنيسة الله بسببه تحدث المساواة (2كو8: 13-15).

ثالث عشر: أمثلة لأشخاص أعطوا وأشخاص لم يعطوا

توجد أمثلة في كلمة الله وكذلك من الحياة المعاصرة لأشخاص قد أعطوا والرب أكرمهم مثل:

أيوب: من أقواله "لأني أنقذت المسكين والمستغيث واليتيم ولا معين له. بركة الهالك حلَّت عليَّ وجعلت قلب الأرملة يُسر... كنت عيونًا للعُمي وأرجلاً للعُرج. أب أنا للفقراء ودعوى لم أعرفها فحصت عنها" (أى29: 12-16)، وأيضًا "إن كنت منعت المساكين عن مرادهم أو أفنيت عيني الأرملة أو أكلت لقمتي وحدي فما أكل منهم اليتيم... إن كنت رأيت هالكًا لعدم اللبس أو فقيرًا بلا كسوة... فلتسقط عضدي من كتفي ولتنكسر ذراعي من قصبتها" (أى 31: 16-22)، نظير حياة كهذه كان إكرام الرب له بشهادة الشيطان نفسه "أليس أنك سيَّجت حوله وحول كل ما له (كل ممتلكاته) من كل ناحية. باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض" (أي1: 10)، حتى بعد تجربته أكرمه الرب "وزاد على ما كان لأيوب ضعفًا" (أي42: 10).

المرأة الشونمية: (2مل4: 8-37؛ 8: 1-6) قالت لرجلها "قد علمت أن رجل الله مُقدّس... فلنعمل له عُلية (حجرة في الطابق العلوي) على الحائط صغيرة، ونضع له هناك سريرًا وخوانًا (دولابًا) وكرسيًا ومنارة حتى إذا جاء يميل إليها" (2مل4: 8-11)، وفعلاً عملت له والرب أكرمها، ويظهر هذا الإكرام كالتالي: أولاً، لم يكن لها ابن وقد شاخ رجلها، فأعطاها الله ابنًا وأزال عارها (لأن اليهود كانوا يعتبرون عدم الإنجاب لعنة وعارًا). ثانيًا، عندما مات ابنها أنامته في ذات العُلية التي أكرمت الرب ورجل الله بها، والرب أقام ابنها مستخدمًا أليشع. وثالثًا، حفظها الله من المجاعة التي ضربت الأرض لمدة سبع سنين، فأرسل لها أليشع ليُحذرها بأمر الجوع القادم وينصحها بالتغرب في أرض الفلسطينيين. رابعًا، عندما رجعت بعد انتهاء المجاعة دخلت لتصرخ إلى الملك لأجل بيتها ولأجل حقلها، في وقت كان الملك يسمع فيه من جيحزي عن كيف أن أليشع أقام ابنها من الأموات، والرب أكرمها بأن حرّك قلب الملك (وهو في يده كجدول مياه) ليرد لهذه المرأة كل شيء "فأعطاها الملك خصيًا قائلاً: أرجع كل ما لها وجميع غلات الحقل من حين تركت الأرض إلى الآن" (2مل8: 6).

زكا: (لو 19: 8) عندما دخل الرب يسوع بيت زكا، دخل أيضًا قلبه فتغيرت حياته. فوقف زكا وصرّح بأمر مهم جدًا وقال: "ها أنا يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين وإن كنت قد وشيت بأحد أرد له أربعة أضعاف" (لو 19: 8). إن وعد زكا بأن يرد أربعة أضعاف للذين قد وشى بهم هو تحقيق لأمر الناموس والشريعة، ففي خر 22: 1 نجد الوصية الإلهية "إذا سرق إنسان ثورًا أو شاة فذبحه أو باعه يعوض عن الثور بخمسة ثيران وعن الشاة بأربعة من الغنم"، ونفس هذا المبدأ أكده داود النبي عندما واجهه ناثان بخطيته التي ارتكبها مع زوجة أوريا الحثي، فقال داود: "ويرد النعجة أربعة أضعاف لأنه فعل هذا الأمر ولم يشفق" (2صم 12: 6). إذًا فتعويض زكا لمن قد وشى بهم بأربعة أضعاف لم يكن فضلاً، لأنه كان يُطبّق أوامر الشريعة والوصايا الإلهية. ولكن لكي يُعبّر زكا عن محبته للرب يسوع الذي غفر كل خطاياه وستر كل عيوبه قال أيضًا: "أعطي نصف أموالي للمساكين". لاحظ أن المساكين والفقراء كان من حقهم حسب الشريعة أن يأخذوا فقط 10% من ثروة زكا (تث14: 28). إن محبة زكا للرب يسوع جعلته يجد مخرجًا آخر غير الواجبات والمسئوليات فأعطى المساكين أكثر من المطلوب حسب الوصية. فقال زكا: "أعطي نصف أموالي للمساكين" (لو19: 8).

مريم أخت لعازر: كسرت قارورة الطيب كثير الثمن وهي بتقدير الوحي ثمنها 300 دينارًا. الدينار يساوي أجرة العامل في اليوم، والسنة تحتوي على 365 يومًا، فإذا خصمنا أيام السبت التي لا يعمل فيها اليهود وهي حوالي 52 سبتًا في العام، وأيضًا أيام المحافل المقدسة التي لا يعمل فيه عمل ما من الشغل وهي 7 أيام (راجع لا 23، أيام الأعياد اليهودية هي 19 يومًا، أما العطلات الرسمية فهي 7 أيام فقط) فيكون ثمن العطر (والذي هو أكثر من 300 دينار) يوازي تقريبًا أجر العامل لمدة عام كامل:

(365 52- - 7= 306 دينارًا في السنة)!!

الأرملة ذات الفلسين: "هذه المرأة أعطت كل معيشتها"، فعلت ما فشل فيه الشاب الغني الذي جاء إلى الرب يسوع راكضًا ليسأل: "ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟" وعندما قال له الرب "اذهب بع كل ما لك وأعطِ الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني حاملاً الصليب"، مضى حزينًا لأن المال كسيد كان قد أحكم قبضته عليه. كان الواجب على هذه المرأة أن تدفع العُشر من الفلسين، هذا أقصى ما يُطلب من امرأة نظيرها، لكنها بسخاء قلبها أعطت فوق الواجب وأعطت كل معيشتها فلهذا استحقت مدح الرب.

طابيثا: "كانت ممتلئة أعمالاً صالحة وإحسانات كانت تصنعها" (أع 9: 36) فكانت تخدم الفقراء، والكتاب وضح هذا عندما ماتت كان الأرامل يبكين عليها ويُرين بطرس الأقمصة والثياب التي كانت تصنعها لهن.

برنابا: باع حقله وأتى بالدراهم ووضعها عند أرجل الرسل (أع4: 37)، لهذا لا نتعجب عندما نقرأ عن موهبته وعن اتساع دائرة خدمته وتأثيره، فقد كان أمينًا في القليل فأقامه الله على الكثير (أع11: 23 و24؛ 13: 1).

                                        ومن الأمثلة المعاصرة

كولجيت: صاحب مصانع كولجيت للصابون ومعجون الأسنان. يُقال عنه إنه بدأ بدفع عشوره وهو بعد شاب صغير. ثم بدأ يزيد عطاياه إلى عُشرين ثم إلى ثلاثة أعشار ثم إلى خمسة أعشار. ثم ادخر قدرًا من المال لسد احتياجاته وأعطى كل دخله وموارده لخدمة الإنجيل. فباركه الرب، ونحن نعلم ما وصل إليه مصنعه ومنتجاته من نجاح وشهرة على مستوى العالم.

كرافت: صاحب مصانع الجبن ومنتجاته الشهيرة. لقد بدأ بدفع عشوره إذ كان بعد بائعًا متجولاً يدفع أمامه عربة صغيرة في شوارع نيويورك يبيع الحليب والجبن. وظل يدفع عشوره طيلة أيام عمره، وها مصنعه ومنتجاته الآن تُعد من أعظم منتجات الألبان في كل أنحاء العالم.

جون روكفلر: واحد من أغنى أغنياء العالم في وقته. عُرف بسخاء عطائه في مجال عمل الله ونشر الإنجيل. ويُقال عنه إن سر غناه وبركة الله عليه، أنه بدأ بدفع عشوره وهو في سن الثامنة من عمره وفي ذلك الوقت كان فقيرًا ومعدمًا.

وتوجد أمثلة كتابية وأخرى معاصرة عن أشخاص لم يكونوا أمناء مع الرب من جهة تعاملهم مع المال بصفة عامة والعطاء بصفة خاصة ومنهم:

نابال الكرملي: لم يعطِ غلمان داود طعامًا كانوا هم في حاجة إليه رغم كل الأسباب التي تجعل داود وغلمانه يستحقون العطاء وقال: "هل آخذ خبزي ومائي وذبيحي الذي ذبحت لجازي وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم؟" (1صم25: 11)، واستخدامه لياء الملكية كثيرًا في أقواله هذه، ليوضح لنا كم أن ذاته وأموره الخاصة تطغي عليه فلا مجال عنده للتفكير في العطاء للآخرين.

جيحزي: كان ينبغي أن يكون خليفة أليشع مثلما أخذ أليشع نصيب اثنين من روح إيليا، لكن لسبب محبته للمال لم يأتمنه الرب على المواهب والخدمة بل بالعكس كان عليه عقاب من الرب (2مل 5: 25-27).

ومن الأمثلة المعاصرة

هاورد هوجس: لقد مات وترك وراءه 2 بليون دولار أمريكي، ولكن في آخر عشر سنوات من حياته أغلق الباب على نفسه في حالة من الكآبة والوحدة وعدم السعادة. تجنب الحديث مع أي إنسان، ومرض بمرض الخوف والقلق من التعامل مع أي شخص. وهذا لأنه لم يعطف على الآخرين بماله.

تحذير

ليتنا بعد هذه الأمثلة نكون قد تحذرنا وانتبهنا لكلمات الوحي "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا" (مت6: 19-21).

ومن ضمن العقوبات التي تألم بسببها شعب الرب عندما اهتموا بأمورهم الخاصة دون الاهتمام ببيت الرب "زرعتم كثيرًا ودخلتم قليلاً. تأكلون وليس إلى الشبع. تشربون ولا تروون. تكتسون ولا تدفأون، والآخذ أجرة يأخذ أجرة لكيس منقوب" (حجي 1: 5 و6) وهذا يعني عدم وجود بركة الرب في الحياة ولا في الممتلكات.

ونلاحظ أن الله يأخذ حقه بأثر رجعي والمثال على ذلك سنوات السبي السبعين (إر25) ولقد وضح الرب ذلك في أخبار الأيام الثاني36: 19-21 "لإكمال كلام الرب بفم إرميا حتى استوفت الأرض سبوتها لأنها سبتت في كل أيام خرابها لإكمال سبعين سنة".

ومن فترة السبي نتعلم أيضًا أن الله من الممكن أن يسترد حقوقه وذلك بنزع الملكية منا طالما نحن غير أمناء عليها.

أخيرًا ليتنا بعد دراستنا لهذا الموضوع العملي نُنمي في أنفسنا وفي الآخرين حب العطاء سواء كان الشخص صغيرًا أو كبيرًا، وأيضًا يجب علينا أن نقوم بالعطاء بأشكاله المتنوعة سواء كان مالاً أو وقتًا أو غير ذلك. ونتدرب أمام الرب كيف نعطي، وماذا نعطي، ومَنْ نعطي. لأننا من الرب أخذنا وله نعطي "من يدك أعطيناك".

تذييل: بقلم د. فايز فؤاد

ذبائح التسبيح وذبائح التوزيع

في عبرانيين 13: 15 و16 يُحرضنا الرسول بولس، مسوقًا من الروح القدس: "فلنُقدِّم به في كل حين ذبيحة التسبيح أي ثمر شفاه معترفة باسمه"، هذا هو السجود ثم يضيف الرسول: "ولكن لا تنسوا فعل الخير والتوزيع لأنه بذبائح مثل هذه يُسرّ الله"، وهذا هو الإحسان وفعل الخير. وبجمع الاثنين معًا نرى صفات المسيحية من وجهيها تسبيح وعبادة الله وفعل الخير للناس. يا لهما من صفتين ثمينتين! يا ليتنا نظهرهما بأكثر أمانة! ومن المؤكد أنهما دائمًا مقترنان معًا. أرني إنسانًا قلبه مملوء بالتسبيح لله وأنا أريك فيه شخصًا قلبه مفتوح لسد حاجات البشر المختلفة. قد لا يكون غنيًا في حطام الدنيا وقد يكون حاله كحال ذلك الذي لم يخجل بأن يقول: "ليس لي فضة ولا ذهب" (أع 3: 6)، ولكن لابد أن يكون له دمعة حنان ونظرة شفقة وكلمة مواساة، وهذه الأمور أقوى تأثيرًا على القلب الحساس من رنين الذهب والفضة.

"ولكن لا تنسوا فعل الخير والتوزيع" (عب13: 16)، والصيغة التي يستعملها الوحي هنا تستلفت النظر حقًا، فلم يقًل الوحي: "ولكن لا تنسوا تقديم ذبيحة التسبيح" كلا، فالرسول يضيف هذه الوصية اللازمة والتي نحن في شديد الحاجة إليها ويأمرنا ألا ننسى فعل الخير والتوزيع، وذلك لأنه يخشى أننا ونحن فرحون ومبتهجون بمقامنا ونصيبنا في المسيح "ننسى" أننا سائرون في مشهد الفاقة والاحتياج والضيق؛ لذلك يقول: "لا تنسوا فعل الخير والتوزيع". والمسيحي بحسب فكر الله هو الشخص الذي يقف ويده الواحدة مرفوعة إلى السماء لتقديم ذبيحة التسبيح لله ويده الأخرى ممتلئة بثمار الخير والإحسان النفيسة لتملأ كل احتياج وتساعد على تخفيف كل ضيق.

إن القلب الساجد الفرح هو أيضًا قلب سخي. فعندما نسبح الله، المعطي السخي، ونشكره من أجل عطايا نعمته تلك العطايا الثمينة الغنية التي لا نستحقها، عندئذ تتسع قلوبنا وتسمو وعندئذ لا ننسى فعل الخير والتوزيع بل بالحري نشتاق لاكتشاف الأعمال الصالحة المعدة لكي نسلك فيها ولاكتشاف الفقير المحتاج، وأعضاء المسيح المتضعين المجربين لكي نساعدهم ونشجعهم ونُدخل السرور إلى قلوبهم.

"لا تنسوا فعل الخير والتوزيع لأنه بذبائح مثل هذه يُسرّ الله" (عب13: 16). أما فعل الخير فهو شيء مفهوم "نصنع الخير للجميع ولا سيما لأهل الإيمان" (غل6: 10)، وأما التوزيع فماذا يعني؟ إنه يعني مشاركة إخوتنا المعوزين الذين تركهم الرب في أعناقنا. فنحن لا نمن عليهم بل نقاسمهم الرغيف الواحد الذي نمتلكه. "لأنه بذبائح مثل هذه يُسرّ الله" وما يُسِرّ الله نُسرّ به نحن. ونلاحظ أن "التوزيع" غير قاصر على القديسين فإنه يمتد إلى خدام الإنجيل. والرب قديمًا أوصى الشعب قائلاً: "في آخر ثلاث سنين تخرج كل عُشر محصولك في تلك السنة وتضعه في أبوابك، فيأتي اللاوي لأنه ليس له قسم ولا نصيب معك والغريب واليتيم والأرملة الذين في أبوابك ويأكلون ويشبعون لكي يباركك الرب إلهك في كل عمل يدك الذي تعمل" (تث14: 28و29؛ 26: 12و13).

فالإسرائيلي بالمعنى الروحي ليس من حقه فقط أن يتمتع ويفرح بكل شيء طيب منحه إياه الرب إلهه، بل عليه أيضًا أن يذكر اللاوي والغريب واليتيم والأرملة. وبعبارة أخرى عليه أن يذكر (اللاوي) الشخص الذي كرس حياته لعمل الرب ولهذا فليس له نصيب في الأرض، وكذلك يذكر الغريب الذي لا مأوى له، واليتيم المحروم من والد أو عائل يحميه، والأرملة التي فقدت زوجها، وهذا ما لابد منه دائمًا، فتيار النعمة ينحدر من قلب الله ويملأ قلوبنا إلى درجة الفيضان وعندئذ يكون واسطة انتعاش وبركة حيثما حللنا وأينما وجدنا.

أيها الأحباء، إن معيشة اللاوي -خادم الرب والغريب واليتيم والأرملة- مسئولية في أعناقنا نحن المؤمنين. وها هو بولس الرسول يقول للقديسين في فيلبي: "ولكني قد استوفيت كل شيء واستفضلت، قد امتلأت إذ قبلت من أبفرودتس الأشياء التي من عندكم نسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة عند الله". هم سددوا بعض حاجات الرسول، فهل يبقى الله ساكتًا وهو يشتم هذه الرائحة الطيبة؟ كلا. "فيملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع" (في4: 18و19).

يا ليتنا نتأمل جيدًا أيها القارئ المحبوب في هذه الأمور الهامة، بل يا ليتنا نجتهد حتى تكون حياتنا مُنصّبة في هذين الاتجاهين العظيمين، أن نشخص بعيوننا ونتجه بقلوبنا إلى الله ونقدم ذبيحة التسبيح، وأن ننظر إلى ما حولنا، إلى العالم المحتاج إلينا ونفعل له الخير، فهذان هما الفرعان الرئيسيان للمسيحية العملية، فلا يجوز أن نقنع بإحداهما دون الأخرى بأي حال. فيا ليت كل هذه تكون فينا وتكثر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الكنيسة الرسولية هي أحد الكنائس غير التقليدية وهي كنيسة إنجيلية تبشيرية كاريزماتية.